أجرى رئيس
الوزراء الإسرائيلي بنيامين
نتنياهو زيارة لافتة إلى العاصمة
الأمريكية واشنطن الأسبوع الماضي من أجل إلقاء خطاب أمام الكونغرس بمجلسيه النواب
والشيوخ. وفي السياق، دخل البيت الأبيض لأول مرة منذ عودته للسلطة منذ عامين تقريبا،
حيث التقى الرئيس جو بايدن ونائبته كامالا هاريس، التي أصبحت مرشحة الحزب الديمقراطي
للانتخابات الرئاسية في مواجهة المرشح الجمهوري دونالد ترامب بعد تنحي الرئيس
بايدن عن السياق الانتخابي لأسباب صحية؛ مغلبا المصلحة الوطنية والحزبية على
مصلحته الشخصية كما قال في إعلان تنحيه المقتضب.
فخطاب الكونغرس جاء
بدعوة من الجمهوريين ووافق عليه الديمقراطيون على مضض بحجة دعم إسرائيل في مواجهة
طوفان الأقصى وحربها الوجودية ضد حماس والفلسطينيين، حسب التعبير المتداول في محيط
نتنياهو وتحالف اليمين المتطرف الحاكم في إسرائيل والمقبول لدى دوائر وقطاعات
واسعة في الحزب الجمهوري الأمريكي.
أما الإدارة الديمقراطية
وفي بيئتها الحزبية السياسية حتى تلك المؤيدة لإسرائيل؛ فترى أن هذه الأخيرة تجاوزت
كل الحدود، وأطالت حرب
غزة -المدمرة حسب تعبير هاريس- أكثر مما ينبغي، وأن نتنياهو
فعل ذلك عامدا متعمدا لمصالح شخصية وحزبية فئوية وخاصة، وللبقاء في السلطة لأبعد
مدى زمني ممكن، على عكس ما فعل بايدن من خلال تنحيه عن السباق الرئاسي مغلبا
المصلحة الوطنية العامة على الحزبية والخاصة.واستطرادا،
قاطع نصف أعضاء الكونغرس الديمقراطيين في مجلسي النواب والشيوخ خطاب نتنياهو، بينما
حضر آخرون للتشويش عليه، كما فعلت مثلا النائبة من أصل فلسطيني رشيدة طليب وزميلها
اليهودي جيري نادلر.
تحدث نتنياهو عن وهم الانتصار المطلق بغزة وفلسطين والمنطقة وإسقاط حماس وسلطتها، وتجاهل عمليا صفقة الهدنة وتبادل الأسرى، التي تعتبر إنجازا لبايدن والديمقراطيين وتدخلهم ووساطتهم
إضافة إلى ذلك،
تم تنظيم تظاهرات رافضة للزيارة والخطاب في محيط الكونغرس والبيت الأبيض أيضا؛ ليس
فقط من الفلسطينيين وداعميهم وإنما من يهود أمريكيين معارضين لنتنياهو وسياسته تجاه
الفلسطينيين وحتى تجاه الإسرائيليين أنفسهم، وسعيه رفقة تحالفه اليميني الأشد
تطرفا إلى كسر التوازنات المنظوماتية والمؤسساتية الداخلية، وتغيير هوية وصورة
الدولة العبرية -الديمقراطية المتنورة- كما يتم ترويجها في أمريكا والغرب والعالم
بشكل عام.
وفيما يتعلق بالخطاب
نفسه، فقد بدا من حيث الشكل محاولة لدق إسفين بين الجمهوريين والديمقراطيين واستفزازا
وابتزازا للبيت الأبيض، تماما كما كان الحال في خطابه الشهير حول الاتفاق النووي
مع إيران في العام 2015، والذي جاء أيضا مخالفا للإدارة الديمقراطية آنذاك برئاسة باراك
أوباما ونائبه جو بايدن.
كذلك جاء الخطاب
أقرب إلى الضوضاء وبلغة منمقة ولكن فارغة واستعراضية تماما كخطاباته السابقة في 1996
و2009 و2015، وتحديدا هذا الأخير الذي فشل في منع الاتفاق النووي -على علّاته-
ولكن مع الحصول على تعويض ضخم بحجم 38 مليار دولار على عشر سنوات. وكما دائما أتت
الخطابات وتأتي لتقوية وضعه الداخلي على أعتاب الانتخابات الحتمية أو للتعافي والانتعاش
بمواجهة المأزق السياسي الوجودي الذي يواجهه، مع اعتباره ميتا إكلينيكيا من الناحية
السياسية بحيث بات سؤال رحيله قصة متى لا هل.
ورغم تعهد نتنياهو
المسبق بعدم انتقاد الإدارة الأمريكية أو الغمز من قناتها، لكن المشهد برمته مثّل
ولا شك تجاوزا وحتى انتقاصا منها وتدخلا فظا في الشؤون الداخلية الأمريكية كما في الاستحقاق
الانتخابي المقرر في تشرين ثاني/ نوفمبر القادم.
أما في المضمون، فقد
تحدث نتنياهو عن وهم الانتصار المطلق بغزة وفلسطين والمنطقة وإسقاط حماس وسلطتها، وتجاهل
عمليا صفقة الهدنة وتبادل الأسرى، التي تعتبر إنجازا لبايدن والديمقراطيين وتدخلهم
ووساطتهم، كما قال حليفه وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير في اجتماع عاصف لمجلس الوزراء
الخميس الماضي، وتلقى التوبيخ والانتقادات ضد تأجيل الصفقة وعدم الاهتمام والتضحية
بالأسرى والبنات تحديدا، كما قال له رئيس الموساد دافيد برنياع المكلف بملف المفاوضات
غير المباشرة مع حماس عبر الوسطاء (أمريكا وقطر ومصر).
وفيما يتعلق
بالجزء المتعلق بزيارة البيت الأبيض، فنتنياهو لم يتلق دعوة للزيارة بمجرد تشكيله
الحكومة قبل عامين، وهو ما يحدث لأول مرة في تاريخ العلاقات الأمريكية الإسرائيلية،
حيث درجت العادة على تلقي رئيس الوزراء الإسرائيلي دعوة رسمية لزيارة واشنطن بعد أسابيع
أو شهور قليلة بالحد الأقصى من تسلمه مهام منصبه وتشكيل حكومته، بينما نتنياهو لم يلتق
بايدن في أمريكا سوى مرة واحدة في مقر الأمم المتحدة في نيويورك في أيلول/ سبتمبر 2023،
على هامش اجتماعات الجمعية العامة للمنظمة الدولية المتحدة؛ لا في البيت الأبيض ولا
حتى في العاصمة واشنطن، هذا مع استثناء زيارة الرئيس الأمريكي للدولة العبرية بعد
أيام قليلة من حرب غزة لإظهار التضامن والتعاطف معها.
وعليه وبعد
عامين من عودته لرئاسة الوزراء دخل نتنياهو إلى البيت الأبيض، حيث التقى الرئيس
بايدن ونائبته هاريس التي أصبحت عمليا المرشحة الديمقراطية للانتخابات الرئاسية،
وبينما كان اللقاء مع بايدن هادئا نسبيا جاء نظيره مع هاريس صريحا وبنّاء، وهو ما
يعني باللغة الدبلوماسية أنه شهد خلافات ووجهات نظر متباينة، وهي تحدثت بلغة قوية
وصريحة أيضا بعده عن ضرورة نهاية حرب غزة المدمرة وتحسين الأوضاع الإنسانية الكارثية
فيها نتيجة الممارسات الإسرائيلية، وهو ما أغضب نتنياهو وحاشيته ووصلوا إلى حد القول
إنها تصريحات داعمة لحماس ومشجعة لها على تشديد مواقفها في مفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى.
قبل مغادرته تل
أبيب سعى نتنياهو للقاء المرشح الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب أيضا أو أحد من
فريقه أو حتى التحدث إليه هاتفيا، لكنه حصل على فرصة اللقاء الثنائي المباشر بمنتجع
ترامب في بالم بيتش لتنقية العلاقات، بعدما اتهمه ترامب بالخيانة وحتى عدم الجدية
في السعي من أجل التوصل إلى اتفاق سلام نهائي في فلسطين، وهو -أي ترامب- استغل
اللقاء لمصلحته ومهاجمة منافسته هاريس واتهامها بعدم احترام إسرائيل، في تقرب واضح
للوبي الصهيوني والأصوات الداعمة للدولة العبرية في واشنطن وأمريكا بشكل عام.
في السياق، كان
لافتا كذلك حرص ترامب على نشر رسالة الرئيس محمود عباس إليه ورده اللطيف عليها قبل
يوم من لقائه نتنياهو، وهو ما يعني أن مواقفه قد تكون أكثر توزانا في حالة عودته إلى
البيت الأبيض، خاصة بعدما اتهم نتنياهو في مذكراته بعدم الإخلاص في السعي من أجل السلام
في فلسطين والمنطقة بشكل عام.
كما العادة، لا بد
من التذكير بالعبارة الخالدة والصحيحة لوزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر،
لجهة أن إسرائيل لا تملك سياسة خارجية بل داخلية فقط.
أكدت الزيارة بالمجمل نهاية الإجماع الأمريكي السياسي والحزبي حول الدولة العبرية التي باتت قضية خلافية في واشنطن، حتى لو كانت السيرورة في بدايتها
ومن هنا بدا خطاب
نتنياهو وهو الرابع له كمسؤول أجنبي في الكونغرس (أكثر حتى من ونستون تشرشل) شكلا ومضمونا تعبيرا عن الأزمة الداخلية بالدولة
العبرية، وسعيا للتهرب من الانتخابات المبكرة الحتمية ولجنة التحقيق في إخفاقات 7
تشرين الأول/ أكتوبر، مع صفقة هدنة وتبادل أسرى أو بدونها،
كون الحرب بشكلها الحالي قد انتهت، وإطالتها غير مجدية وغير ممكنة في ظل موقف
الجيش والداخل الإسرائيلي. ومع رفض تأجيل محاكمته المقررة في كانون
الأول/ ديسمبر، ثمة توقعات بإسقاط الحكومة والذهاب إلى انتخابات قبل نهاية العام الجاري.
ومن جهة أخرى، أكدت
الزيارة بالمجمل نهاية الإجماع الأمريكي السياسي والحزبي حول الدولة العبرية التي
باتت قضية خلافية في واشنطن، حتى لو كانت السيرورة في بدايتها. فمثلا، ومنذ سنوات
قليلة فقط ما كان أحد ليتصور أن قصة تصدير السلاح ستصبح أزمة وأن الإدارة
الامريكية ستفرض قيودا عليه حتى لو كانت محدودة وفى نطاق ضيق.
وبالعموم، مثّلت
الزيارة قفزة في الهواء وتذاكيا وتشاطرا من نتنياهو، لا ينجيانه من مصيره المحتوم المماثل
لمصير الملك جورج الخامس، الشهاب المدوي الذي سقط سقوطا ذريعا (أفادت استطلاعات 2 آب/
أغسطس بتلاشي فوائد الخطاب). ونظريا، فقد خرج من التاريخ من بابه الضيّق وهو المهووس
بالإرث والتراث والتاريخ. ونتنياهو لن يكون له ميدان ولا مكتبة ولا حتى شارع باسمه،
كما يجادله ويستفزه دائما زعيم المعارضة يائير لبيد.