مع بداية انسحاب النهار ودخول
الليل، نسمع جلبة بين الحراس لا نتبين منها معنى، لكننا تعودنا عليها، وعرفنا أنها
حركة غلق الزنازين والتأكد من تمام السجناء. يبدأ الغلق بزنزانة العزل، أصوات
المزاليج الحديدية ساعة الإغلاق صارت عندي مثل "دقات المسرح".. علامة
على بداية العرض، سيدخل الليل وتتبدل الأصوات العالية بالهمس، وتنخفض لغة الأوامر
والمطالب والتوسلات، وتحل محلها لغة الحكي والذكريات، و"كاني وماني"
و"الدنيا والدين"..
حكى صقر العرباوي ذات ليلية
عن "خبطة العمر" للحصول على ملايين في ضربة واحدة، لكنها ضاعت لسبب
"عبيط جدا".. راحت عليه نومة!! فيعلق حمام الشرقاوي بهدوئه الطبيعي
وحكمته الموروثة من سنين الشقاء والكفاح التي عاشها: يا ابني الدنيا للموعودين مش
للحسّابين..
لحظة صمت جماعية مفاجئة، دون
أي اتفاق مسبق، يكسرها صوت حمام الهامس، كأنه يلقي تعويذة: أنا اشتغلت تحت الأرض! وفي
هذه الليلة حكى حمام عن مغامرته في التنقيب عن الآثار بدم الأطفال والزئبق الأحمر،
وعصابات لا تعرف الرحمة.
قد أعود بالتفصيل بعد ذلك إلى
مغامرات الشرقاوي للكشف عن هذا العالم السري المزدحم الجرائم والغرائب، لكن ما
يهمني الآن، هو تأثير هذه الليلة على السجين الوسيم الهادئ الذي وعدت بالكتابة في
نهاية المقال السابق.. السجين هشام الحسيني..
مهندس اتصالات شاب، أبيض
البشرة، ملون العينين، حريص على تصفيف شعره الكستنائي كأنه ذاهب إلى حفلة، لا يحكي
ولا يتكلم كثيرا، لكنه يستمع بإنصات لكل ما يقوله الآخرون، في ليلة الآثار التي أطلق
فيها الشرقاوي عفاريت الميتافيزيقا انفكت عقد لسان هشام الحسيني، وبدأ يستفسر
ويشارك في الحديث بتعليقات توضح أنه مثقف وقارئ مطلع ومتابع لما يحدث في الدنيا
باهتمام عميق.
حول رقعة الشطرنج تكونت الصداقات وتوطدت، وسنحت الفرصة للسؤال عن الحال والتعرف على الجوانب الشخصية، وبالطبع البحث عن إجابة لـ"السؤال المركزي": انت جيت هنا ليه؟
بعد توزيع
"الإيراد" (الوافدين الجدد إلى السجن) من العزل إلى العنابر، انتهت
علاقات وتوطدت علاقات، فالعلاقات في
السجون "علاقات مكان"، المكان يفرض
على الجميع شروطه في الكلام والطعام والمنام، وليس أمام السجين إلا أن يتعامل مع
المقيدين معه في مساحة السجن، الفرق في نوع العلاقة ودرجتها. وفي العنبر شعرنا
بنقلة فندقية، يوجد حمام وسخان للمياه الساخنة، وسخان لتسخين الطعام، ومخزون متنوع
من الأطعمة والحلويات، وأسرّة وغطاء كاف لنوم أفضل، وشطرنج.
كان الشطرنج هو أول شيء تقع
عليه أعيننا ويستطيع أن يعيد إلينا شعور مهجور بالفرحة: إيه ده شطرنج؟.. احجزوا لي
دور مع أحسن واحد بيلعب فيكم..
كش ملك.. مات الملك.. دور
جديد..
حول رقعة الشطرنج تكونت
الصداقات وتوطدت، وسنحت الفرصة للسؤال عن الحال والتعرف على الجوانب الشخصية،
وبالطبع البحث عن إجابة لـ"السؤال المركزي": انت جيت هنا ليه؟
كعادته كان هشام الحسيني
بتفرج ولا يلعب، ومن تعليقاته القليلة واقتراحاته "نقلات" لبعض اللاعبين
المبتدئين، وطريقة شرحه لفوائد النقلة، فطنت على أنه لاعب متمكن من اللعبة، وتعجبت
أن "شطرنجيا شابا" يجد أمامه رقعة شطرنج بقواتها ولاعبيها، ولا يغريه
ذلك باللعب، إنها حالة نادرة بالنسبة لي!
كانت المعيشة في العنبر
تذكرني بالمعيشة في معسكرات الكشافة، ومبيت برامج التثقيف السرية التي كنا ننظمها
بعيدا عن أعين الأمن في سنوات الدراسة الجامعية، وفي العادة كانت أغلبية النزلاء
تنام بداية من العاشرة مساء، بعد ساعة أو ساعتين من صلاة العشاء، وعندما ينتصف
الليل يتم تخفيف الضوء، حيث يطفئ "نوبتجي العنبر" كل اللمبات ما عدا لمبة
تضيء الطريق إلى دورة المياه، و"لمبة الفسحة". والفسحة هي المكان
المقابل لباب العنبر الذي يتم فرشه بالبطاطين واستخدامه لصلاة الجماعة وموائد
الطعام، وفي الليل يتحول إلى ملتقى للساهرين، وبالمناسبة فإن "نوبتجي
العنبر" هو سجين مثلنا لكن تم اختياره كمسؤول إداري للعنبر بالتنسيق مع ضابط
الأمن الوطني وإدارة السجن، لضمان تنفيذ التعليمات بدون إخلال..
كان المهندس هشام الحسيني من
حزب الساهرين، وفي الليل يقل الزحام ويزداد الكلام وتتقارب النفوس وتنفتح نوافذ
الفضفضة، وكنت اتصور أن الحسيني في بداية الثلاثينيات من عمره، وتركني فترة مصدقا
لانطباعاتي من غير أن يصحح لي، وذات ليلة كان حزينا ومهموما بدرجة كبيرة، لدرجة
أنه انزوى في سريره في آخر العنبر، ولم ينزل إلى الفسحة القريبة من سريري، وكنت
على يقين أنه لم ينم ويعاني من حزن وأرق، ولم ارتكه للعزلة المؤلمة مع افكاره
القاتمة، فاقتربت من سريره وهمست بصوت خافت: انت صاحي يا هشام؟.. لو صاحي تعالى
اقعد معايا شوية.. أنا زهقان ومخنوق وعاوز اتكلم مع حد.
اعتدل هشام من رقدته، وأزاح
البطانية عن جسده، وقام لينهض وينزل من سريره في الدور الثالث (الأسرة في العنبر
كانت في ثلاثة طوابق من الأرض حتى الشقف).
كان الحسيني يتصرف بتأن في كل
شيء، تحرك ببطء، ورتب كل شيء قبل أن ينزل، مكان البطانية وزجاجة الماء وكتابا
مستعارا من المكتبة وأوراق الخطابات، وأخذ يعبث في علبة صغيرة من البلاستيك،
استخرج منها شريط دواء السكر، وضعه في الجيب العلوي للقميص ونزل من السرير..
كنت قد تعودت على بطء هشام،
وتعاملت معه بوصفه سمة إيجابية في شخصيته، فهو من النوع الذي يفكر قبل أن يتكلم،
ويفكر قبل يتحرك، ويفكر حتى قبل أن يلقي السلام. كنت في بداية معرفتي به أتضايق من
ذلك وأعتبره علامة تردد وعدم ثقة بالنفس، لكن مع الوقت تراجعت عن سوء ظني،
واستبدلت صفة "البطء" بصفة أفضل وهي "التأني"..
عندما اتجهنا إلى الفسحة
لنجلس، لاحظت أن هشاما يحمل في يده "وسادة نومه"، نظف البطانية قبل أن
نجلس، تحسبا لبقايا الطعام، فالمكان متعدد الاستخدام، ثم وضع الوسادة بجوار الجدار
على البطانية، ولم يجلس عليها، بل جلس بجوارها، وقال لي بهدوء وهو يشير على
الوسادة: اقعد هنا عشان ضهرك ما يتعبش..
كانت مشكلة العمود الفقري تمنعني
كثيرا من الحركة دون سند، وعن الجلوس على الأرض، فأنعم الله عليّ بمن يعاونني
ويرعاني حتى وأنا داخل السجن.
قال هشام: مالك يا حبيبنا،
مخنوق من إيه؟
قلت: هحكي لك بإحساس أفضل لو
لعبنا شطرنج.. تلعب معايا؟
بعد لحظة تفكير، قال: ألعب.
سهرنا نلعب ونحكي، وغرضي
الكامن لم يكن الشكوى لهشام، لكن التخفيف من حزنه الذي لا أعرف له سببا، ولا أحب
أن أتطفل عليه، أو أسأله في شيء لم يبادر هو بالحديث عنه، لكنني كنت ألوي الكلام،
وأتعمد أن أوجه إليه رسائل إيجابية تبعث في نفسه الأمل: أنا كبرت وشبعت من الدنيا
يا هشام، لكن اللي زيك هما المستقبل.. انت لسه في بداية شبابك والدنيا قدامك، أنا
الدنيا بقت ورايا.. انت عندك أولاد يا هشام؟
نظر لي هشام وابتسامة غامضة
على وجهه وقال: انت فاكر إني "حاجة وعشرين" أو تلاتين سنة، مش كده؟
أنا 42 سنة يا أستاذنا، خبير
كومبيوتر قديم، بشتغل مدير تقني في شركة من أكبر شركات الاتصالات "انفورميشن
تكنولوجي مانجر"، متجوز وعندي ولد وبنت، عايش في الطابق الأخير من بيت
العيلة، لأني مقدرش أعيش بعيد عن أمي، شرطي الوحيد على زوجتي قبل الزواج أن تعامل
أمي كابنة لها، وتخدمها باعتبارها أمها وليست حماتها. لي شقيق وحيد، أكبر مني لكنه
مدلل ولا يتحمل المسؤولية، طيب وخلوق، لكنه لا يهتم إلا بنفسه، يحب أمه مثلي، لكنه
ينتظر منها أن تدلله وتعطيه الأموال، من غير أن يفكر أنها تحتاج منه شيء، يتعامل
معها بنفس الطريقة منذ كان طفلا، ولا يكاد يتذكر أن صحتها تخذلها، عندما يزورها
يجلس على "الكنبة" أمام التلفزيون يحكي لها نجاحاته ومغامراته ومشاكساته
مع زوجته واصحابه الذين تحفظ أسماءهم جميعا، وينتظر منها أن تقوم لتعد له العشاء
والشاي، وكانت هذه الطريقة مثارا لخلافات كثيرة بيني وبينه، لم يكن يغضب مني، لكن
كان يقول ضاحكا: مالكش دعوة.. اخدمها انت براحتك.. هي بتحب ان أنا أتعبها واتدلع
عليها..
أخي هو الوحيد الذي يزورني في
سجني، يتصرف بطريقته المعتادة، لا يخبر أحدا من العائلة ولا يرهق أحدا بإعداد طعام
أو غيره، في يوم الزيارة يمر على مطعم يشتري طعاما جاهزا وعصائر، ويأتي فيترك لي
أموالا سائلة في أمانات السجن، وفي نهاية الزيارة يتذكر ان يخبرني بطريقته
البسيطة: على فكرة لو الأكل اللي انا جبته النهارده ما عجبكش، انا سيبت لك فلوس في
الأمانات، اشتري اللي يعجبك من الكانتين.
في بداية حبسي كانت زوجتي
تضغط عليه ليمر عليها فترسل معه أطعمة صنعتها بنفسها، لأنها تعرف أني أحبها، وكانت
أمي ترسل معه رسالة بخط يدها، مع الوقت تباعدت الفترات بين إعداد زوجتي للوجبات
التي أفضلها، ولا أعرف هل تكاسلت هي، أم أن أخي أهمل المرور عليها واستسهل شراء
الطعام الجاهز كالعادة. وفي الزيارة قبل الأخيرة فوجئت أن أمي لم ترسل رسالتها
المعتادة مع أخي، شعرت بالقلق، وانتظرت موعد الزيارة التالية التي حدثت اليوم، وفي
بدايتها سألت أخي بلهفة: سلمت جواب ماما للأمن على الباب وللا نسيت زي المرة اللي
فاتت؟
قال: ااخ.. نسيت، معلش عندي
دي يا هشام، صحيت متأخر ونزلت مستعجل، على العموم أنا بطمنك أهو، هي بتقول لك ايه
في الجواب يعني غير ازيك يا حبيبي وخد بالك من نفسك، كل كويس واتغطى كويس.. أديني
قلت لك اللي في الجواب!
خيم إحساس من الكآبة على
نفسي، ومش قادر أتخلص منه، ومش هرتاح إلا لما أخويا يجيب رسالة أمي في الزيارة
الجاية..
سلمها لله يا هشام وبكره
تفرج، مين عارف يمكن تخرج إفراج قبل الزيارة الجاية.
قال هشام بمرارة: إفراج.. ده
أمل بعيد.. لسه بدري على التفكير في الكلام ده؟
- سألته بدهشة: ليه؟.. انت
قضيتك إيه؟
قال: سلاح وأحراز فوق الـ300
كيلوجرام، العساكر اللي كانت بتنقل الأحراز للنيابة، كانوا بيدعوا عليا، لأن
الحمولة كسرت ظهرهم، وفهمت من التحقيق أمام وكيل النيابة، أن قضيتي هتاخد وقت طويل
جدا بسبب الحاجة لوقت طويل لفحص الأحراز، خاصة إنهم صادروا 7 لابتوب وأكثر من
عشرين فلاش ميموري وهارد ديسك وموبايل، حاجات تخصني وحاجات من ضرورات عملي
التكنولوجي في الشركة..
- طب وموضوع السلاح.. مسكوا
عندك سلاح فعلا وازاي؟؟
آه من عندي، الحقيقة كل
الأحراز خدوها من بيتي، لكن القصة مختلفة تماما عن التهم الي تم توجيهها لي في
أوراق القضية.
القضية دي محتاجة شرح يا هشام
ممكن اعرفها واحدة واحدة؟..
في المقال المقبل نواصل
حكايات السجن..
[email protected]
انت جيت هنا ليه؟.. يوميات معتقل (4)
سلاح ورعب وأكاذيب.. يوميات معتقل (6)