قام الرئيس
قيس سعيد بتحوير وزاري واسع فاجأ الكثيرين، بحكم أن الانتخابات
الرئاسية لم يعد يفصلها عن
التونسيين سوى أسابيع قليلة لا تجاوز الخمسة. وجرت
العادة أن يفعل ذلك الرؤساء عموما بعد تجاوز الامتحان الانتخابي، فيتجهون بعد
انتصارهم إلى اختيار وجوه جديدة توحي بدخول مرحلة مغايرة في الحكم. لكن يبدو أن
سعيد واثق من أنه باق في السلطة، وأن ما سيقع يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر لن يغير
من الأمر شيئا!
اللافت للنظر في هذا السياق هو التبرير الذي اعتمده الرئيس المنتهية ولايته
لتفسير الخطوة التي أقدم عليها، فهو أهم من تفاصيل التحوير وحجمه؛ اعتبر سعيد أن
الوضع الراهن يتسم بـ"صراع مفتوح بين
الشعب التونسي المصر على التحرر وعلى تحقيق العدالة والحرية، وعلى مقاومة الفساد
وجهات مرتمية في أحضان دوائر خارجية تمني نفسها بالعودة الى الوراء..
وهذا التأكيد ليس بالجديد في الخطاب الرئاسي، لكن المعطى الهام الذي أضافه هذه المرة قوله إن اختيار عدد من المسؤولين، جهويّا ومحلّيا ومركزيّا،
كان بناء على تعهدهم على تحقيق أهداف الشعب التونسي ومطالبه المشروعة، لكن لم تمر
سوى أيّام بعد تكليفهم إلا وانطلقت المنظومة من وراء الستار لتنجح في احتواء عدد
غير قليل منهم،
اختيار عدد من المسؤولين، جهويّا ومحلّيا ومركزيّا، كان بناء على تعهدهم على تحقيق أهداف الشعب التونسي ومطالبه المشروعة، لكن لم تمر سوى أيّام بعد تكليفهم إلا وانطلقت المنظومة من وراء الستار لتنجح في احتواء عدد غير قليل منهم، والالتفاف عليهم
عليهم، مما حوّل الوضع منذ مدة إلى صراع بين نظام دستوري
جديد ومنظومة فاسدة ما زال الفاعلون فيها يُمنون أنفسهم بالعودة الى الوراء، مؤكدا
بالخصوص على أنه "تشكلت داخل أجهزة الدولة مراكز وهو أمر يقتضي الواجب وضع
حدّ فوري له". وأضاف أن الدستور الحالي ينص على أن "الوظيفة التنفيذية
يمارسها رئيس الجمهورية وتساعده حكومة"، مبرزا أنّ "الوزير للمساعدة ولا
يمكن أن تكون له خيارات خارج الخيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية".
هكذا أصبح الأمر أكثر وضوحا مقارنة بأي وقت مضى. في البداية كان
هناك اعتقاد رسمي بأن مصدر "التآمر" على رئيس الدولة ينحصر في المعارضين
له من سياسيين ونشطاء، وفي عدد من "الفاسدين"، لكن "الخطر"
الذي يهدد الأمن القومي تجاوز هذا النطاق الضيق واتسعت دائرته لتشمل أطرافا داخل
الدولة؛ بمن في ذلك مسؤولين قام هو شخصيا باختيارهم وتعيينهم، لكن سرعان ما يتم
احتواؤهم ليصبحوا بدورهم أدوات تُستعمل ضد الدولة ورئيسها، وبالتالي تحولت
"المعركة" إلى صراع مفتوح ضد "مراكز قوى" قادرة على توظيف
أجهزة الدولة واستخدامها لتنفيذ سياسات "مشبوهة".
بناء على ما تقدم، يتضح أن عقلية المؤامرة اتسعت دائرتها لتحتل
مكانة مركزية في الرؤية السياسية السائدة حاليا في تونس. وهذا المنهج التآمري من
شأنه يخلق حالة من الخوف والشك تؤدي بالضرورة إلى توسيع دائرة الضحايا، والاعتماد
أكثر فأكثر على سياسة أمنية تعمل على تحجيم المعارضة والمجتمع المدني.
ليس مسموحا لأي مسؤول مهما علت رتبته ومكانته أن يناقش رئيس الدولة، أو يخالفه في قول أو فعل، فإذا تجرأ وفعل تتم إقالته مباشرة، ويتسرب الشك في ولائه، وقد يصل الأمر الى توجيه تهمة التآمر إليه
وبما أن الدستور الحالي ينص على أن الوظيفة التنفيذية يمارسها
رئيس الجمهورية وتساعده حكومة، فهذا يعني أن الوحيد الذي من حقه ممارسة السياسة
سواء بمعناها الواسع أو الضيق هو الرئيس سعيد، الذي قام بتوضيح هذه المسألة بشكل
حاسم. فالوزير دوره ينحصر فقط في تقديم المساعدة لا غير، "ولا يمكن أن تكون
له خيارات خارج الخيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية". لهذا لم يتردد قيس
سعيد لحظة واحدة في إعفاء وزير الفلاحة رغم رتبته العسكرية، لمجرد تأكيد هذا
الأخير على أن أزمة المياه في تونس تعود الى انحباس الأمطار وتغير المناخ في
العالم، رافضا بذلك ضمنيا التفسير الذي اعتمده الرئيس سعيد حين اعتبر أن انقطاع
الماء في مختلف المحافظات ليس ظاهرة طبيعية، وإنما تقف وراءه لوبيات تعمل على
إرباك الأوضاع بمناسبة موعد تنظيم الانتخابات الرئاسية.
وفق هذه الرؤية ليس مسموحا لأي مسؤول مهما علت رتبته ومكانته أن
يناقش رئيس الدولة، أو يخالفه في قول أو فعل، فإذا تجرأ وفعل تتم إقالته مباشرة،
ويتسرب الشك في ولائه، وقد يصل الأمر الى توجيه تهمة التآمر إليه في حال لم ينزو ويلزم
الصمت. فالذي يقبل الوزارة يقبلها بهذه الشروط، أو عليه البقاء بعيدا عن الأضواء
حتى لا يحترق.