مع رحيل آخر الرجال الثلاثة الذين صادقتهم
في
الغرب (الفيلسوف المسلم رجاء غارودي) ومع رحيل (ميشال جوبير وزير خارجية فرنسا
الأسبق) ترجل عن جواده آخرهم المفكر الاقتصادي الأمريكي ومستشار الرئيس الأسبق
(رونالد ريغن) صديقي منذ الثمانينيات (ليندن لا روش).. وإلى يوم الناس هذا عندما
يدلهم ليل الأحداث الجسام وتنزل على العالم صواعق مثل هذه التي نحياها في حرب
إبادة شعب غزة باستمرار ارتكاب جرائم حرب بأيدي حكومة متطرفة في إسرائيل لا يهم
رئيسها سوى بقائه في الحكم والإفلات من محاسبة عسيرة مبرمجة في قضاء بلاده!
أمام هذه المخاطر التي نبه إليها وسطاء
السلام أستعيد من أرشيف ذاكرتي مواقف ثلاث قامات من صلب الغرب، صنعوا جزءا من
تاريخ الغرب الحديث بمشاركتهم في إنجاح مسار الحوار بين الإسلام والغرب الذي انطلق
من دولة قطر في مؤتمرات سنوية عديدة وظلوا صامدين لم تزعزعهم نزعات التطرف
والعنصرية ولا حتى المحاكمات الكيدية.
لم تدرك أمريكا بعد أن حجمها العملاق يفرض عليها اليوم رسالة في حوار الحضارات ونصرة المظلومين ورفع راية مبادئ حقوق الشعوب وحقوق الإنسان.. إلى اليوم لم تتعلم تلك القوة العظمى أن عالما خاليا من تلك المبادئ لن يصمد.. وسيجرف أمريكا معه ـ أو تجرفه أمريكا ـ إلى الهاوية
جمعتني بهؤلاء الرجال الثلاث صداقات قديمة
أصيلة حرصت على رعايتها وتنميتها خلال زمن المنفى الصعب، ذلك الزمن القاسي الذي
يخذلك فيه من اعتبرتهم ذات يوم أصدقاء ويتفرق من حولك المنافقون الذين جمعتهم بك
مسؤوليات سياسية زائلة وأعراض دنيوية عابرة.
ولكن (ليندن لاروش) رجل الاقتصاد الأمريكي
المعروف والمرشح الأسبق لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية و(ميشال جوبير) وزير
خارجية فرنسا الأسبق و(رجاء غارودي) الفيلسوف الفرنسي المسلم الذي نذر نصف قرن من
حياته لخدمة حوار الحضارات وفضح أكاذيب الصهيونية هؤلاء الرجال الثلاثة يظلون
شامخين في ذاكرتي وفي ضميري من ذلك المعدن الأصيل الثمين الذي لا يتغير مع الأحداث..
وفي هذه المحنة التي تمر بها حضارة الإسلام
وهي محنة متعددة الأبعاد: من العراق إلى فلسطين إلى نذر الفوضى في ليبيا ومصر
واليمن مرورا بمحنة سوريا التي لا نرى لها أفق حل إلى تونس التي انطلقت منها أول
شرارة رفض الاستبداد وحققت مكاسب غالية ولكنها فقدت الأمن والعافية! استرجعت
أحاديثي المطولة مع هؤلاء الأصدقاء الثلاثة وقرأت محطاتها بعيون أخرى مختلفة وأنا
دائس معكم جميعا أيها القراء الكرام على جمر هذه المصائب حين أذكر حديثي مع (ليندن
لاروش) في يوم دافئ من أيام نوفمبر 1984 حيث دعاني إلى قضاء يوم في "رانشه"
بولاية بنسلفانيا غير بعيد عن واشنطن وكنت في ذلك العهد عضوا بالبرلمان التونسي
مقررا للجنة الشؤون السياسية في أواخر عهد بورقيبة، وكان بالطبع لاروش كأي سياسي
أمريكي يريد أن يطلع على مشاغل الطبقة السياسية المغاربية واتجاهات
الرأي العام
العربي إزاء العلاقات الأمريكية العربية وبخاصة قضية فلسطين وتعامل إدارة الرئيس
رونالد ريغن في ذلك الزمن مع تلك القضية.
وكنت بدوري حريصا على فهم ذلك الجهاز المعقد
الذي اسمه أمريكا وكيف يتاح للعرب إيجاد قنوات للتعامل مع الرأي العام الأمريكي
لأنه ذو التأثير الحاسم على مجريات القضية الفلسطينية، وكانت تونس في ذلك العقد من
الزمن تأوي جامعة الدول العربية وتستضيف منظمة التحرير الفلسطينية وأبو عمار وأبو
جهاد وأبو إياد وأبو اللطف وكل القيادة المناضلة.. فاهتمام (ليندن لاروش) بما كنت
أقوله هو اهتمام طبيعي بالنظر لموقع تونس القوي آنذاك ودورها في بلورة سياساته
العربية..
قال لي لاروش ونحن نتغدى على مائدته مع
زوجته هلجا: "أنا أعتقد أن ليس للإدارة الأمريكية سياسة عربية فهي منذ (دوايت
ايزنهاور) تستعيض عنها بالسياسة الإسرائيلية.. هذا هو الخطر الكبيرالذي يهدد مصالح
أمريكا على المدى البعيد.. لأن البيت الأبيض ينظر للعرب بعيون إسرائيلية.. لاحظ
مثلا اعتبار ياسر عرفات إرهابيا من قبل إدارة (ريغن) لا لشيء إلا لأن إسرائيل
تعتبره إرهابيا.. وأكد لي لاروش أنه كتب مذكرة لريغن وقال له إن عرفات ينتمي إلى
آخر جيل فلسطيني يقبل التفاوض وأن الجيل الذي سيأتي بعده سيأخذ حقوقه بالسلاح
والعنف.. نحن نتوقع أن يتحول جزء من ذلك العنف ليضرب أمريكا ذاتها في يوم من
الأيام.. لأننا لم نستقل بعد عن الرؤية والتصور والأنماط والمصالح السائدة في
إسرائيل. هكذا تكلم ليندن لاروش منذ أربعين سنة.
أما ميشال جوبير وزير خارجية فرنسا المولود
في المغرب العربي والقلم المنصف للعرب ولقضية فلسطين، فأنا أذكر حديثه منذ ثلاثين
سنة في مطعم سان فرانسيسكو الذي نلتقي فيه أسبوعيا كل يوم أحد ويحرص كلانا على
احترام تلك المواعيد. قال لي ذات يوم صيفي عام 1996: إنني أعجب من العمى السياسي
الذي يصيب الإدارة الأمريكية.. رئيسا تلو رئيس. وأعتقد أن الجهل هو سبب ذلك العمى
وذلك التخبط، فالأمريكي المتوسط الذي يصنع الرأي العام الضاغط عادة على قرارات
الإدارة الأمريكية هو مواطن محدود المدارك السياسية ليس لديه طموح في أن يعرف
حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي. فإسرائيل بالنسبة إليه هي الدولة الموالية
لأمريكا وحامية الغرب من شعوب عربية متخلفة "غير ديمقراطية".. وهذه
الرؤية لدى الأمريكي المتوسط هي رؤية إسرائيلية.. صاغتها وسوغتها وروجتها أجهزة
إعلامية ذات تأثير خاصة القنوات التلفزيونية الأهلية والمحلية التي تبث لولاية أو
لمدينة كبرى أو لمجموعة مدن.
هذا هو المجتمع الأمريكي أمام قضية فلسطين..
كيف نغير هذه المعادلة؟ هكذا تكلم ميشال جوبير وهو الذي عاش طول حياته مسكونا
بهاجس التخبط الأمريكي ويعتبره أم المعضلات أمام قضية فلسطين.
وأني أقرأ مقالات جوبير الصادرة بعد 11
سبتمبر 2001 وأرى أنه حلل الأحداث بنفس المنطق بل إنه عندما كان يتحاور في عام
1973 مع زميله الأمريكي (هنري كيسنجر) ينصح الإدارة الأمريكية بقراءة حرب أكتوبر
73 بعيون أخرى وتوقع أزمة عالمية كبرى من جراء مساندة الظلم الإسرائيلي دون ضوابط.
أما الصديق المفكر رجاء غارودي رحمة الله
عليه فكانت لي معه أحاديث مطولة في بيته.. قال لي منذ ثلاثين سنة "إني أكتب
كتابا هذه الأيام سوف أضع له عنوانا هو: أمريكا تقود العالم إلى الهاوية! فقلت له:
لعل هذا الاستنتاج مبالغ فيه.. فرد عليّ قائلا: لا إنها الحقيقة.. لم تدرك أمريكا
بعد أن حجمها العملاق يفرض عليها اليوم رسالة في حوار الحضارات ونصرة المظلومين
ورفع راية مبادئ حقوق الشعوب وحقوق الإنسان.. إلى اليوم لم تتعلم تلك القوة العظمى
أن عالما خاليا من تلك المبادئ لن يصمد.. وسيجرف أمريكا معه ـ أو تجرفه أمريكا ـ
إلى الهاوية.. إن أمريكا تمهد مع الأسف لعالم دون قيم أو بالأحرى بقيم دون محتوى، فهي
ترفع شعارات الحرية ـ مثل تمثالها الشهير ـ لكنها لم تتحول إلى ممارسة سياسية
وحضارية. هكذا تكلم ثلاثة رجال أقدرهم وأحترمهم.. والزمن أعطاهم الحق والمصداقية.