كانت أبرز سردية كل المشاركين في المنتدى الاقتصادي العالمي بالدوحة
هذه الأيام هي الإرادة على رفض ما سمي بالنظام العالمي بسبب فشله ومعاييره
المزدوجة والظلم المسلط على الشعوب. ومن جهة أخرى تتلاحق الأحداث الجسام في
بلداننا العربية وفي العالم بأسره حولنا بوتيرة يومية لتعلن عن ظاهرة استثنائية
عالمية قد لا يتفطن لها العرب في خضم مأساة جزء منهم
فلسطين وهي تتعرض منذ 7
أكتوبر 2023 إلى حرب إبادة جماعية نازية غير مسبوقة.
ومهما كان الخطب الراهن فنحن العرب معتادون على الغفلة بل مطبعون مع
الاستسلام قابلون للاحتلال ثم للاستبداد حسب تعبير مالك بن نبي.
لم تكن حالتنا تلك صدفة أو بإرادتنا بل جاءت نتيجة مدروسة لمخططات
استعمارية قديمة زرعت في المسلم بذور احتقار الذات وتعظيم الغرب الطاغي! وأصابنا
داء الانغيار (أي الذوبان في الغير) مع ما رافقه من عدم الاهتمام بما يمس مصالحنا
الحيوية وأمننا القومي وهويتنا الأصيلة في زمن لا يغفر للغافلين غفلتهم وفي زمن
نطلق عليه نعت عصر العولمة.
يكفي أن نقرأ التحولات العميقة التي تضمنها بيان مؤتمر ميونيخ للأمن
الدولي المنعقد في 17 فبراير 2024 وبيان القمة للعشرين دولة الأقوى الذي انعقد في
نيودلهي في 10 سبتمبر 2023 لندرك حجم ومدى التغيير في طبيعة العلاقات الدولية، حيث
استفاقت كل الأمم الأخرى على الحقائق الجديدة الطارئة والمفروضة على الناس جميعا.
أكبر وأخطر هذه الحقائق هي إفلاس النظام العالمي الأطلسي التقليدي
الجائر الذي نشأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية وتشكل حسب مصالح وإرادة الدول
الكبرى المنتصرة على الأعداء النازيين في ألمانيا والفاشيين في إيطاليا والمتجبرين
في اليابان، أي أولئك المهزومين الذين يسمون تحالفهم بدول المحور حين هزمتهم جيوش
أمريكا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي (آنذاك) واستسلم المهزومون الثلاثة
بعد قصف مدينتي هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية في أغسطس 1945، وشرع الغالبون
يقسمون الدول المهزومة إلى مقاطعات تخضع لهم وعاقبوها بإذلالها وحرمان شعوبها من
أن تكون لهم دول مستقلة أو جيوش أو حتى رايات تمثل سيادتهم.
والكبار من القراء عايشوا الحرب الباردة بين المعسكرين الليبرالي
الذي تتزعمه واشنطن والشيوعي الذي تتزعمه موسكو وكيف هندس هؤلاء المنتصرين نظاما
سموه "عالميا سيستم" يضمن على المدى البعيد سيطرتهم ويضمن خضوع
المهزومين ولكنه "سيستم" يضمن لهم كذلك استمرار عجز الشعوب المستضعفة عن
التحكم في مصائرها.. ومن هذه الشعوب نحن العرب ولم نكن طرفا لا في الحرب ولا في
السلم بل حشرونا حشرا في خانة سموها "دول العالم الثالث" أو بنعت ألطف
"الدول السائرة في طريق النمو".
واكتشف جيلنا العربي أن النمو لا يزال بعيد المنال وتساءلنا في كتبنا
ومؤتمراتنا عن طريق النمو الموعود وقلنا إما أننا نزحف كالسلاحف على الطريق وغيرنا
يجري كالغزلان وإما أننا أخطأنا الطريق أصلا!
وتشكل ما سموه النظام العالمي منذ 1945 على قياس المنتصرين ولخدمة
مصالحهم ولضمان هيمنتهم فأسسوا منظمة الأمم المتحدة بمبادئ سامية معلنة تغش شعوب
الأمم المستضعفة بينما دفن المستكبرون في ميثاقها لغما يسمى "حق النقض"
(الفيتو) فاستعملوه على سبيل المثال ضد الحقوق الفلسطينية 73 مرة أخرها منع واشنطن
تمرير قرار مجلس الأمن لمنح فلسطين مقعدا في المنظمة رغم شبه الإجماع في الجمعية
العامة على قبول دولة فلسطين في الأسرة الأممية!
ثم فكر المستبدون في الهيمنة على الاقتصاد العالمي ومصادرة خيرات
البلدان الهشة فأسسوا سوقين للمال يتحكمان في مسالك التجارة العالمية وتداول
العملات وتحديد كمية المواد الأولية التي تستغل وأسعار الطاقة والسوقان هما
"وول ستريت" في نيويورك و"السيتي" في لندن (وقد ولدا في مؤتمر
بريتن وودس في يوليو 1944 مع البنك العالمي وصندوق النقد الدولي) وهما يسيطران إلى
اليوم على 76% من اقتصاد العالم.
ثم بطبيعة تشابك الاقتصادي مع السياسي انتهكت حرمات الشعوب المستضعفة
وديست مصالحها الحيوية وصفيت قضايانا المركزية مثل الملف الفلسطيني المهدد بالحل
النهائي الذي عرضه (جاريد كوشنير) على دول الشرق الأوسط في مايو 2017 ورفضته دولة
قطر في حينه بالقول إن قطر لا توافق على مشروع لم يحظ بموافقة الفلسطينيين أنفسهم.
وانهارت حرياتنا وهوياتنا بفعل الغزو الممنهج واستمر النظام العالمي
لمدة خمسة وسبعين عاما وهو ليس نظاما بل هو يرسم ملامح فوضى أقنعونا بأنها خطوط
حمراء لا يجوز الاقتراب منها أو التشكيك فيها!
وحين قامت حماس بغزوة 7 أكتوبر زلزل النظام المسمى زورا بالعالمي
واستيقظت الصين ليفرض رئيسها على الغرب في زيارته التاريخية منذ أيام إلى باريس
إرادة بيغين كسر وحدانية الولايات المتحدة وانفرادها بقيادة العالم، كما عاد بوتين
إلى أصول روسيا القيصرية ليثبت أن موسكو لن تتسامح باذلالها في حرب الغرب عليها عن
طريق أوكرانيا.
إن تشكل نظام عالمي بديل تعزز بطوفان الأقصى الذي قلب الموازين و حطم الأساطير و أثبت أن المستضعفين قادرون على تحدي و هزيمة المستكبرين بروح إسلامية (أو أخلاقية) عادلة و مشروعة وهو في الحقيقة اعتراف بالمساواة بين الحضارات من دون الصدام الذي تصوره المفكر الأمريكي "صامويل هنتنجتن"، والذي كرسته في بداية القرن سياسات المحافظين الجدد بزعامة الرئيس بوش الابن.
وأذكر للتاريخ وللحقيقة أني حالفني الحظ بالتعرف منذ أكثر من ثلث قرن
على المفكر الاقتصادي الأمريكي ومستشار الرئيس ريغن في الثمانينيات السيد
"ليندن لاروش" الراحل عنا منذ سنوات قليلة وزوجته السياسية الألمانية
السيدة "هلجا لاروش" رئيسة معهد "شيلر" الدولي وشاركت في
مؤتمرات عديدة نظماها في واشنطن وبون وباريس وفرانكفورت وتحاورت معهما في عديد
المناسبات وكانا يحملان هذه الأفكار منذ السبعينيات وينددان بالظلم المسلط على
الأمم ويدعوان إلى تأسيس نظام عالمي عادل.. وبالطبع كانت كل أجهزة الإعلام الغربية
تكيل الشتائم لهما وتروج أن هذه الأفكار هي متطرفة وخيالية (أقوى وسائل الإعلام
كانت ولا تزال أذرعا للإمبراطوريات المالية).
أدركت شخصيا اليوم أن إصرار ليندن لاروش على مبادئه ودفاعه عن حقوق
الشعب الفلسطيني أثمر بعد عقود وأن زعماء أمثال بوتين وأردوغان والرئيس الصيني (شي
جين بنغ) وأن نخبا من دول أوروبية وآسيوية ومن أمريكا الجنوبية يجسدون اليوم حلم
"لاروش".
وظهر ذلك في الاتجاه السليم الذي توخاه مؤتمر قمة العشرين الأقوى
"جي20" وأعلن فيه الرئيس الصيني إنه على قادة العالم اليوم أن يتحالفوا
لهندسة نظام اقتصادي ونقدي واستراتيجي وثقافي جديد ومختلف عن النظام القديم.
وبالفعل رأينا كيف اتجهت دول الاتحاد الأوروبي إلى بيغين وموسكو لطي
صفحة الخلافات وتدشين مرحلة جديدة من التفاهم لإيجاد حلول عادلة ومعقولة ومقبولة
لأزمات الشرق الأوسط واعتبرت واشنطن هذه المواقف الجديدة نوعا من التحدي الناعم
للعملاق الأمريكي الذي يظلل أوروبا بغطائه النووي!.
وقرأنا في بيان المؤتمر دعوة بيغين إلى إنشاء تحالف تكنولوجي بين
الدول العشرين لتبادل المهارات في تسخير التكنولوجيا للسلم والتقدم وسعادة البشر..
ولا ننسى أن للصين أقوى برنامج لغزو الفضاء بعد أن تعطلت برامج واشنطن وموسكو،
ورأينا نشأة مؤسسات مالية جديدة لتكون النواة الصلبة للنظام البديل وهي المصرف
الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وأسهمت في رأسماله ستون دولة ثم مصرف التنمية
لدول "بريكس"، أي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، وهو
تجمع دول قوية صاعدة قرر قادتها في قمتهم منذ يونيو 2016 توحيد جهودهم وتنسيق
اقتصاداتهم خارج منظومة الأطلسي المنهارة.
كل هذه المبادرات لخصها السيد "لاروش" في عبارة "طريق
الحرير الجديدة"، أي ربط شعوب العالم بشبكة من الجسور التجارية والمسالك
الاتصالية والمراهنة على التعاون الاقتصادي وتبادل الخيرات والخبرات وإحلال السلام
عوضا عن النظام العالمي الأطلسي الغربي الذي يكتفي بإدارة الأزمات وتهيئة العالم
للمواجهات العنيفة باللجوء للحروب لا بقصد إحلال السلام بل من أجل تكريس هيمنة
الغرب المستكبر على حضارات الأمم الأخرى، بنفس منطق الاستعمار القديم الذي زرع في
وجدان بعض نخبنا العربية بواسطة القصف الإعلامي أن شعوبنا مغلوبة عاجزة، وأنه أجدر
بنا أن نتبع ملتهم في اللغة والقوانين واللباس والمأكل والمشرب.
من هذا المنظور فإن تشكل نظام عالمي بديل تعزز بطوفان الأقصى الذي
قلب الموازين و حطم الأساطير و أثبت أن المستضعفين قادرون على تحدي و هزيمة
المستكبرين بروح إسلامية (أو أخلاقية) عادلة و مشروعة وهو في الحقيقة اعتراف
بالمساواة بين الحضارات من دون الصدام الذي تصوره المفكر الأمريكي "صامويل
هنتنجتن"، والذي كرسته في بداية القرن سياسات المحافظين الجدد بزعامة الرئيس
بوش الابن.