صيف وذباب، فراغ وذكرى حب
فاشل، أيام ممطوطة كالدهر، وأيام مقصوفة كالحرية في السجن، كلام كثير ونصوص ميتة،
أغان وأغان وأغان: شوف يا قلبي اللي بكاني وهدّ كياني!
ناولني سيف الفخراني كراسة
الذكريات التي يكتب فيها ملاحظاته والرسائل التي يكتبها للأهل والأصدقاء، ثم لا
يرسل منها إلا القليل.
أعجبني ذلك المقتطف الذي بدأت
به المقال، واستأذنته في نسخة لنشرها في يوم ما، فقال: أنا أقرأ لك ما أحب أن
تسمعه ويسمعه كل الناس، بشرط أن يشعروا بما أشعر به ولا أقوله في الرسائل
والزيارات، أنا سئمت من الرسائل العملية من نوع عاوز بطانية وفوطة، وعاملين إيه؟
وأنا بخير، وأنواع الطعام المطلوب، وكيف الأحوال..
أنا أريد أن يفهم الناس ماذا
يفعل السجن في روحنا، ماذا حدث بنا في أعمق الأعماق، وليس على السطح الخارجي، من
نوع: خسيت يا سيف، اصبر شوية هانت، المحامي بيقول..
أعجبني كلام سيف وأعجبني ما
يفكر فيه ويكتبه بصدق، وسكنتني رغبة مسيطرة بمعرفة كيف يفكر الآخرون من حولنا في
لحظات اللقاء مع النفس، وكيف أفكر أنا في تلك المساحة التي هربت مني في الأسابيع
الأولى للسجن، لأن السطح يسيطر على تفكير السجين: ماذا سيأكل؟ أين ينام؟ وكيف؟
الحلم بامتلاك وسادة بدلا من لي الذراع تحت الرأس، أو وضع حذاءك داخل فوطة مطوية
وصناعة مخدة من أي متعلقات تتوفر داخل الزنزانة.
عندما امتلكت ورقة وقلم بعد
أيام من سجني لم أستطع الكتابة فورا، حتى رسائل الطلبات للأهل لم أكن أرغب في
كتابتها، وذات صباح استيقظت على صيحة الدعوة لساعة الشمس، يسمونها في السجن الذي
كنت فيه "التريض"، لم تكن عندي رغبة في النهوض والخروج إلى الممشى
المبلط بين الزنازين. أرضية العنبر من الإيبوكسي الرمادي، لم تكن عندي مشكلة مع
"الإيبوكسي"، برغم أنني لا أحب المواد الكيميائية، كانت مشكلتي مع اللون
الرمادي الكالح الذي يزيد من كآبة العنبر، لذلك كانت رؤية البلاط تمنحني شعورا
بالارتياح والفسحة، ولذلك صرت أكره تعبير "فلان ع الأسفلت" كتعبير عن
خروجه من السجن إلى الحياة الحرة، وأعتبر أن العكس هو الصحيح: "فلان تحرر من
كآبة الأسفلت الذي يسيطر على
السجون في صورة الإيبوكسي.
خرج السجناء محدثين أصواتا
مبهجة تشبه صوت تلاميذ المدارس أثناء الفسحة بين الحصص، دردشات ونداءات عالية على
سجناء في عنابر أخرى للاطمئنان وتبادل المعلومات وتوصيل الرسائل: "مين عنده
زيارة النهاردة؟".. "هتاخد الجوابات معاك توصلها"، مع أصوات ضربات
كرة القدم والضحكات العالية..
كنت أسمع ذلك كله كخلفية،
وأنا ممدد وحدي على سريري في العنبر، تأملت المشهد من حولي وتناولت القلم لأسجل
أول تدوينة لي في السجن:
على مر الزمان مضت حياة
الإنسان على الأرض كما تمضي الحياة في سجننا هذا.
ألا يوحي ذلك لك بشيء ما؟
(أسأل نفسي ولا أجيب).
يوم آخر، لكنه مختلف، لا
لشيء، فقط لأنه مكتوب عنه.. لأنه سيبقى، بينما يسقط أشباهه في النسيان.. استيقظت
مع إشراقة الشمس، وظللت راقدا في مكاني أتأمل الحياة من وراء الستارة التي تحيط
بالسرير من الاتجاهات الأربعة، كان نور الصباح الأبيض يملأ الفراغات الهندسية
الدقيقة في مساحة النوافذ العلوية، كنت أتخيلها شمسيات جمالية كتلك التي في القصور
والمساجد القديمة، لم أتعامل معها باعتبارها فتحات للتهوية مغلقة بشبكة من السلك
والقضبان الحديدية. لا أتذكر الزمن الذي قضيته وأنا أتأمل المشهد الساكن، أو
"الطبيعة الصامتة" بتعبير الفنانين التشكيليين، أنتبه قليلا إلى تأثير نسمة
من الهواء البارد في صيف حزيران/ يونيو، راقت لي هفهفة الستارة التي تحيط بالسرير،
أواصل مراقبة الصباح الصامت قبل ضجيج الاستيقاظ العام في العنبر.
يستيقظ جاري في السرير
المقابل، يحمل فوطته الصغيرة على كتفه ويمسك بقطعة من الصابون في يده ويتجه نحو
الحمام، صوت الخطوات يبتعد، وبعد دقائق يعود ويجلس على حافة سريره، يستخرج شيئا ما
من أحد أكياس البلاستيك المعلقة بمسمار في الجدار، عرفت ذلك من صوت البحث في
الأكياس، ثم صوت القضم.
بدأت متوالية الاستيقاظ
التدريجي للعنبر، وسمعت صوت المفتاح في الباب الحديدي والحارس يقول كالمعتاد:
ياللا تريض.
يمد جاري يده ويرفع ستارة
سريري: انت صاحي؟.. تفطر الأول وللا بعد التريض؟
* اخرج انت أنا مش هخرج
النهاردة.
- تعبان وللا حاجة؟
* لأ.. بخير الحمد لله، بس
عندي رغبة في الاسترخاء كده ومش عاوز أخرج.
- طيب أعمل لك حاجة تشربها ونفطر بعد التريض؟
* متشكر يا سالم.. الحق انت
التريض، الساعة بتخلص بسرعة.
- يقول وهو يضحك: على رأيك،
يوم السجن سنة، وساعة التريض خمس دقائق.
الرسالة الاولى:
رسالتي الأولى التي كتبتها في
السجن كانت لابنتي، لكنني قررت في اللحظة الأخيرة أن أحتفظ بها دون إرسال، مفضلا
إخفاء خبر سجني عن أولادي الذين لا يعرفون حقيقة غيابي، ظنا منهم أنني في رحلة عمل
خارج البلاد.
نص الرسالة:
اطمئني يا حبيبتي، اعتبري
غيابي لون آخر من ألوان الفراق، مثل السفر والانشغال.
السجن ليس بالجدران، السجن
ليس للأبدان.. السجن سجن الروح.. حبس الأمل.. كبت الأشواق.. حظر مشاركة الأحباء في
مهمة نسج الذكريات..
لهذا لا أعتبر نفسي سجينا يا
ابنتي الحبيبة.. كل المشكلة أن حريتي معطلة مؤقتا، ومؤجلة قليلا..
الأجمل بالنسبة لي في هذه
الأيام وكل الأيام، أن أراك دائما حرة، متوجة بالثقة والقوة أنت وأخوك وكل الطيبين.
محبة لا تحدها حدود..
السجن يصنع الشعر:
المنزلاوي فتي يافع في
العشرينات من عمره الأخضر، يحب زميلته في الجامعة ولا يبوح لها بحبه!
* ليه يا أحمد؟
- كده أحسن، أنا فقير وعلى قد
حالي، وهي باين عليها من عيلة مبسوطة، الحب في السر سهل، أنا أملكه وأقدر عليه، لو
قلت هو يملكني ويتحكم فيّ.. يا ترفض وتكسر أحلامي.. يا تقبل وندخل في أسئلة خطوبة
وشبكة ومهر وهدايا، والحب ينكسر بسبب أعباء أنا مش قدها ولا أهلي مستعدين لها،
عقلي قال لي اصبر لما تتخرج يا أحمد، يمكن الزمان يضحك لك وتتعدل الأحوال.
تراكمت المشاعر في سجن أحمد
فبدأ يكتبها على الورق، وبدأ يقرأها لسجناء آخرين فتعجبهم ويستأذنونه في نقلها
واستخدامها في الرسائل، وذاعت سيرة أحمد كشاعر رومانسي رقيق في السجن. وأسجل في
هذا المقال واحدة من كثر قصائده تعبيرا عن نفسه وعن جيله، والقصيدة عنوانها
"صبّار":
في آخر طايفة الأزهار..
(عشان صبار)
صبار..
بس كان واقف وكان ثابت
لا عمره نظرته للحياة خابت
ولا عمره هان من قسوة المشوار
صبار..
بس كان جابر وكان صابر
لا انهزم من قِلة الميه
ولا شاف فرحة في لمة الزوار
(عشان صبار)
وعشان صبار.. مكانش يزعل أو
يغار
لما يشوف في الصبح وردة بتفتح..
أصلها في العصر هيقطفها عاشق
قلبه مكتوي بالنار
وف آخر المشوار..
هينساها في قلب كتاب عن لوعة
الحب والأحباب..
أو يدفنها في جيب جاكتة مرمية
في حضن دولاب
أما هوه فكان مبسوط وكان
متصان
عشان صبار
وعشان صبار.. مكانش يفرح
لما السما في يوم تندي
ولا كانش يزعل لما تجف
فلا المطر يحييه
ولا الجفاف يخلّي عينه ترف
صبار وصابر ع الألم الآهات
يا ما شاف ورود دِبلِتْ
ويا ما شيّع للورود جنازات
صبار وعارف ان في طبعه طوق
النجاة
لا بيشكي الشوك ولا المرار
اللي جواه
عارف انه محروم وطعمه مُر
بس لو كان بإيده يختار
هيختار يفضل صبار
عشان يعيش حياته وهو حر
وفي المقال المقبل أواصل
التعريف بنماذج من كتابات السجن..
[email protected]
مخبر أمن دولة.. يوميات معتقل (9)
"لا شيء يثبت أني أحبك غير الكتابة".. يوميات معتقل (11)