قضايا وآراء

ضلال ورشاد

عزالدين مصطفى جلولي
إن مجرد النية والتفكير في تحرير الأقصى عبادة جليلة، فكيف بمن يقدم في هذا السبيل ما هو مفروض؟ (الأناضول)
إن مجرد النية والتفكير في تحرير الأقصى عبادة جليلة، فكيف بمن يقدم في هذا السبيل ما هو مفروض؟ (الأناضول)
ما يقرؤه المسلم من حوادث الزمان في الأمم المستكبرة غير ما يقرؤه غيره، وما يحمله المشتغلون بالعلوم الإسلامية من خير وسعادة، ويحهم لو علمته تلك الأمم لقاتلتهم عليه، كما قال إبراهيم بن أدهم (رحمه الله): "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف". السعادة سعادتان: واحدة يعرفها المؤمنون بالله ويتذوقها العارفون به أشد ما يكون التذوق، أما الأخرى فسعادة الحكم بشريعة الله، يعلمها نظريا في هذا الزمان المتخصصون في الشريعة الإسلامية، أما عامة المسلمين وسائر الأمم الأخرى فهم منها محرومون.

كثير ممن يحمل تلك السعادة نظريا يعيش اليوم في نرجسية غريبة عجيبة، ولو أن هذا المسكين عاش في قرون سلفت لعزر جلدا لتقصيره في أدائها للناس؛ لذلكم ما أشد شقاوة أولئك القوم بهؤلاء النرجسيين! وما أعظم بلية هذا الدين بهؤلاء في هذا الزمان! نسأل الله لنا ولكم العافية!

إن قضية فلسطين وفكها من الأسر قضية جوهرية في حياة المسلم المعاصر، يؤجل كل ما دونها من قضايا أو يعطى هامشا محدودا من الاهتمام حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. كذلك فعل الشهيد محمد الزواري التونسي في صمت فلم يعلم بصنيعه الجميل أحد إلا الله وثلة من المرابطين، وكذلكم يجب أن يفعل طلاب الدين في بلاد المسلمين؛ ليرتقوا إلى مصاف الأبطال الحقيقيين، وليكفوا عما هم عليه من سفاسف الأمور وملاحقة العيش كأنما لم يخلقوا إلا لذاك.

سبيل التحرير

إن مجرد النية والتفكير في تحرير الأقصى عبادة جليلة، فكيف بمن يقدم في هذا السبيل ما هو مفروض؟

يتهربون مما منه بد، ولِم يتهربون؟ إنه حب الدنيا وكراهية الموت. هذا حال أهلنا القاعدين عن النصرة في فلسطين وما حولها، حاشا الصالحين منهم والثابتين. عندما تلتقي ببعضهم لا يحدثونك إلا عن متاع الدنيا، البيوت والأسفار والأطعمة، ثم أخبار الاحتلال، وما هم فيه من ضنك، وسبل المساعدة لمن يستطيع؛ والنتيجة بطبيعة الحال مواصلة الاحتلال في التمدد، واستمرار أهلنا في التقلص؛ حتى أغرت العالم المستكبر بتصفية القضية الفلسطينية من الوجود. إنها نبوءة الحديث الشريف: عن أبي عبد السلام، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومِن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت".

مما ضيعه مجاهدو ثورة التحرير الجزائرية بعد الاستقلال ولا يزال واجب تصحيحه أمانة في أعناق من ينتظر منهم، أنهم احتسبوا في المليون ونصف المليون شهيد كل من سقط من الجزائريين بنيران الاحتلال إبان ثورة التحرير المجيدة ولو لم يكن منضويا رسميا في جبهة التحرير أو في جيشها العظيم.
ومما ضيعه مجاهدو ثورة التحرير الجزائرية بعد الاستقلال ولا يزال واجب تصحيحه أمانة في أعناق من ينتظر منهم، أنهم احتسبوا في المليون ونصف المليون شهيد كل من سقط من الجزائريين بنيران الاحتلال إبان ثورة التحرير المجيدة ولو لم يكن منضويا رسميا في جبهة التحرير أو في جيشها العظيم. ولما استقلت الجزائر عدوا في قوائم المجاهدين من كان منتميا إلى الثورة أو من قدم خدمة قيمة لها يشهد عليها اثنان من الثوار. إذن في الضراء تقاسموا المحنة، وفي السراء استأثروا بالمنحة.

وقد حكى لي بعض من أفضى إلى ربه أنه لم يقدم للثورة الجزائرية ما يدعي به صفة المجاهد، ورغم ذلك طلب منه بعض من كان "يجهّد" الناس أن يدفع له "عشاء للذراري" لقاء شهادة زور منه، فأبت أخلاق الرجل أن يفعل ذلك.

أما بيوتات الشعب الجزائري التي كانت تطعم الثوار وتؤويهم وتخفيهم وتتحمل تبعات ذلك كله وتدفع لجبهة التحرير ولجيشها الاشتراكات انتظاما ولولاها لما تجهز جيش التحرير ولما قاتل، فلم تحص قوائمها ضمن المجاهدين والمجاهدات، رغم أن "الشهادة" و"الجهاد" مصطلحان شرعيان ودلالتاهما مستمدتان من الآيات القرآنية؛ لأن السياسة غير الشرعية التي حكمت البلاد بعد الاستقلال ولا تزال أبت إلا تفريغ المفردتين من المعاني الإسلامية، خدمة للأهواء الفكرية والمصالح الشخصية. قال الله تعالى واصفا بالجهاد كل من قدم ماله أو نفسه في سبيل الله: "الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ، وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ".

ومما يحوك في الصدر أسفا، أن مثل هذه المهازل لا تزال تقع حتى في بلاد الحرمين الشريفين، حينما أحرج الجهاد في غزة وما حولها ملوك الخليج بواجب الوقوف لله نصرة للحق، وقفة خالصة لا شرك فيها، فأبى الظالمون إلا نفورا، "اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ، وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ، فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا".

الأرض مهد الحضارة

ثالوث الحضارة منذ فجر التاريخ الإنساني ثابت لم يتغير: التراب والزمان والإنسان، ما تغير فيه هو الإنسان الذي أصبح عندنا لا ينظر إلى الأرض بتقدير واحترام، ولا يدرك بأنها مصدر رزقه الأول، وما عداه من أرزاق تبع له ومتفرع عنه، بما في ذلك التجارة والمهن والخدمات...

الجيل الجديد استعاض عن الأرض بالمال المنقول، أي أنه باع أرض آبائه وأجداده واشترى سيارة أو بضاعة يتاجر بها، وفي أحسن الأحوال باع أرضا واشترى شقة للسكن، لا مكان فيها للشجر ولا للنعم وحتى إنها لتضيق على البشر.

تدعي السلطة في الجزائر بأنها تبني مساكن للناس، مساكن بعضها فوق بعض كأنها هي علب كبريت تبيعها لهم إيجارا، من دون أن تستعمرهم في الأرض على اتساعها، فافتقد الإنسان إلى مصدر أرزاقه الطبيعية مما كان ينتجه تلقائيا هو وعياله من حول بيته، أرزاق طيبة تقيه الجوع والعوز والفاقة؛ فوقع بسبب ذلك فريسة سهلة لدى الرأسماليين، من الخارج والداخل، ممن يستثمرون أموالهم وأمواله في حاجاته كلها، فاستحال هذا "المسكين" إلى عبد أسير يخدمهم مدى الحياة!

وعلى بساطة هذه المعادلة الاجتماعية، المغبون فيها أكثر الناس، فإن المسلم المعاصر لم يستطع فك القيود التي تكبل قدميه ومعصميه وينطلق في الأرض يطلب قوته منها، قوت غير مقطوع ولا ممنوع استودعه الله في براثن الأرض "في أربعة أيام سواء للسائلين"، كما قال الخالق تبارك وتعالى.

لا بد لك، أيها الشباب المسلم! من بذل الجهد لتستخلص التبر من التراب، ولا بد لك من الشقاء لتنال حظا مقسوما لك في هذه الحياة، فالاسترزاق والشقاء أمران متلازمان.

إن بعض السذج من الناس لا يحبون إلا أن يتناولوا حظهم من الحياة بأسلوب لا نصب فيه، فيحترفون البطالة وهم في زهرة الشباب، ويقارفون التفاهات على أنها عمل ذو قيمة، مدللين على حذاقتهم بما لديهم من مال وفير، جمعوه في وقت قصير، وبجهد قليل، ومن خلال أنشطة تلهي وتسيء.

إن قضية فلسطين وفكها من الأسر قضية جوهرية في حياة المسلم المعاصر، يؤجل كل ما دونها من قضايا أو يعطى هامشا محدودا من الاهتمام حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ولأن هؤلاء التافهين جهلة لا يعلمون، فإنهم لم يقولوا للناس كيف تبنى الحضارات وإلى كم تحتاج كي تقوم من أعمار، ولم يقولوا لهم أيضا، من الذي صنع المنصات الرقمية وأتاح لهم الظهور عليها، ولأي غاية هم يستخدمون؟

الذي يهمني من هذه النازلة التي حلت بأمتنا، أن يتفطن الجيل الناشئ عندنا فلا يقع ضحية هذه المغالطات الخطيرة، التي بدأت تصد أبناء المسلمين عن الأخذ بأسباب الاكتساب الحقيقي، وتلقي بهم في سراديب الأوهام والسراب والضياع.

براعم الأمل

ألتقي، في كل مرة، ببراعم عبقرية، فضلها ربها عز وجل بشيء جعلها تتميز عن الآخرين في أمر ما من أمور الحياة، لا نرى المجتمع المسلم يوليها اهتماما أو يدفع بها إلى أماكن مناسبة، تشجيعا منه على العمل الرائع وتكريما للنجاح، حتى يكون هؤلاء قدوة للأجيال القادمة، استمرارا للحياة على أفضل صورة ممكنة.

إن المجتمع لا يهمش المتميزين فيه فحسب، بل إن السلطة القائمة عليه تقوم بذلك أيضا خلافا للقوانين المعمول بها في البلاد. وآية ذلك التوظيف في المناصب العمومية، القائم على المحسوبية والرشوة في أكثر الأحيان، وإن تظاهر المشرفون عليه بالنزاهة والشفافية. والكل منا جرب هذا أو عاينه.

ومما جناه المجتمع على نفسه والسلطة على البلاد أن تصطاد السفارات الأجنبية، التابعة للدول الكبرى على الخصوص، هذه الطاقات الموهوبة وتسهل لها الهجرة إلى بلدانها، ومن ثم تغدق عليها عيشا كريما ينتهي بها إلى الاستقرار الدائم لديها في نهاية المطاف، رغبة منها في استغلال ما يمتلك هؤلاء من إمكانيات لا تقدر بثمن.

ولكل من يهمه استرجاع المال المنهوب من" العصابة" التي حكمت الجزائر عشرين عاما، وهربته إلى الخارج، أن يتنبه إلى العقول المهاجرة التي تستحوذ عليها عصابات محترفة، وجدت في أوضاعنا الداخلية المزرية بيئة خصبة للعمل المنظم.
التعليقات (0)