قضايا وآراء

بيان الثورة التحريرية الجزائرية في ذكراها السبعين

عزالدين مصطفى جلولي
الشعب الجزائري يحتاج إلى نداء وطني من أجل تفعيل الإسلام في السياسة والحكم كنداء الفتح من نوفمبر لتصحيح مسار الدولة الجزائرية.. (الأناضول)
الشعب الجزائري يحتاج إلى نداء وطني من أجل تفعيل الإسلام في السياسة والحكم كنداء الفتح من نوفمبر لتصحيح مسار الدولة الجزائرية.. (الأناضول)
معرفة الحقوق الكاملة للرعية أمر ضروري من أجل المطالبة بها. ولا تحبذ السلطة غير المشفقة بشعبها إلا الحديث عن الواجبات المنوط بـ"المواطن" القيام بها، مع حرصها الشديد على تجهيل الناس بتلك الحقوق، وتذكيرها المستمر بـالعقوبات التي تنجر عن الإخلال بالواجبات، تخويفا للشعب كي لا يتجرأ على المطالبة بتلك الحقوق كاملة، المنوط بالسلطة توفيرها للناس.

إنها"شعرة معاوية" بين الراعي والرعية، ومن يحسن منهما شدها إليه من دون أن تقطع سيربح المعركة بسلم وسلام. والحال عندنا هكذا اليوم، شد وجذب، وعند الدول المتقدمة استراح الجميع من هذه اللعبة الشاقة، وتفرغوا لبناء حضارة، وإن كانت مادية لا روح فيها، إلا أن العقل العلمي يتحكم فيها. ولله في تصريف الأمور عجائب!

بأي منطق يفكر الحاكم في الجزائر اليوم؟ بلد يتربع على ثروة يستطيع أن يعتاش عليها شعب بمئات الملايين لعدة قرون، عدا خراج الأرض وحده الكفيل بذلك العيش الرغيد مدى الحياة الدنيا. ويستحكم في هذا الشعب نظام سياسي غريب عن ثقافة المجتمع برجال ينتدبهم منه وليسوا بخياره، وهنا مكمن الخلل لدى من يدعي فهما سقيما للحديث الشريف: "كيفما تكونوا يولى عليكم".

مغالطات تاريخية

يحلو لسدنة النظام في الجزائر ربط تاريخ البلاد برسو طلائع الاحتلال الفرنسي في ميناء سيدي فرج عام 1830م، ثم بجلائها عام 1962م، ليبدأ فجر الاستقلال بقيام  الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية، lن دون أن يلتفتوا إلى الحديث عن الدولة عقب الغزو، أي إبان المقاومة الشعبية بقيادة الأمير عبد القادر وجيشه المشكل من القبائل الجزائرية؛ وتلكم مغالطة تاريخية انطلت على معظم الجماهير. ولكي تبقى الجماهير مغيبة عن هذه الحقيقة، يرجأ في كل مرة العمل السنيمائي المخلد لشخصية الأمير، ذات الأبعاد المتكاملة في الدين والسياسة والاقتصاد والثقافة والأخلاق، لتتحدث وزيرة الثقافة السابقة عن تفكير وزارتها في تناول شخصية الأمير في الفيلم من الجانب الصوفي فحسب! وزيرة كانت عضوة في "عصابة" حكمت البلاد خلال عشرين سنة من تاريخ الجمهورية!

الشعب الجزائري يحتاج إلى نداء وطني من أجل تفعيل الإسلام في السياسة والحكم كنداء الفتح من نوفمبر لتصحيح مسار الدولة الجزائرية، لأن معضلة الجزائر تكمن ها هنا وليس في مكان غيره، وما عدا ذلك تفاصيل، تفاصيل شاردة في متاهات التبعية والتجريب والارتجال، وكلها آفات تنخر في كيان الدولة منذ الاحتلال الفرنسي للبلاد.
إذن هنالك "عقدة توضع في المنشار" عن قصد عند كل مناسبة كما يقول المثل، لأن تسليط الضوء على تلكم المرحلة المباركة من جهاد شعبنا يفتح عينيه على تاريخه قبل الاستعمار كله، وهو تاريخ مجيد بكل المقاييس، إيمانا ومنعة ورخاء؛ فبعد  الفتح الإسلامي تداولت على حكم البلاد دول لها صولة في الإدارة وجولة، لم تحد عن حكم الشريعة وتعاليمها قيد أنملة خلال اثني عشر قرنا، بدءا من عام ( 86ه /705م) وحتى العام (1245ه/ 1830م). الأمويون كانوا في طليعة الأخيار، فالعباسيون، فالرستميون، فالفاطميون، فبنو حماد، فالموحدون، فبنو زيان، فبنو مرين، فالعثمانيون. ثم حل بأرضنا الأشرار، حتى اندحروا بفضل الله تعالى، فأعقبهم خلف لم يقتفوا آثار أسلافهم إلا ظاهرا، وتشبهوا بأعدائهم باطنا، ولا أدل على ذلك من الموروث السياسي السائد في دواليب الحكم والإدارة الجزائرية اليوم، من علمانية، وتضييق على الشريعة الإسلامية.

فروق مهمة بين ثورتين خالدتين

بين حرب التحرير الجزائرية وحرب التحرير الأفغانية أوجه شبه واختلاف. فكلاهما شعب مسلم سني العقيدة والمذهب حتى النخاع، وكلاهما شديد الطباع صعب المراس، وكلاهما يحيا حياة بدوية ليس فيها ما يذم، وكلاهما تعرض لاحتلال غاشم لا رحمة فيه. ويزيد الأفغان على الجزائريين محنة تعرضهم لموجات متلاحقة من الغزاة، بدءا بالإنجليز، فالاتحاد السوفياتي البائد، ثم أعقبهم الأمريكان دهرا، ليولوا بعده أفغانستان هاربين. الجزائريون تعاملوا مع محتل وحيد هو الفرنسي، وما عداه من غزاة فكان شأنهم معه في التاريخ القديم لا الحديث.

أما أوجه الاختلاف بين الشعبين فهي مربط الفرس في الموضوع. الجزائريون قدموا لتحرير بلدهم مليونا ونصفه من الشهداء، في مدة سبع سنوات، وقاتلوا تحت راية معلق عليها بيان الفاتح من نوفمبر، ذي الصبغة الإسلامية جسدا وروحا، والذي نص على "إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية". بيد أن قادة من جيش التحرير لم يكونوا أوفياء للبيان بالإخلاص نفسه الذي كان عليه الشعب وكثير من قادة الولايات والمناطق، فاختلط الحابل بالنبل أثناء الحرب، ولم يُر أثر ذلك الخلل إلا بعد الاستقلال، حيث تنكبت فئة عن وعدها المقطوع للأمة وارتدت عن روحية بيان نوفمبر، وجلبت لشعبها مذاهب أجنبية لا تراعي أسس الدين والعقيدة كما قال العلامة محمد البشير الإبراهيمي (رحمه الله) في آخر بيان نشره قبل الممات وهو في الإقامة الجبرية "بعد الاستقلال"؛ فأقيمت- على أرض معطاء حباها الخالق سبحانه وتعالى كل شيء- دولة كأنها محتاجة إلى كل شيء؛ وتلكم هي أم المعضلات في الحياة الجزائرية الراهنة.

أما الأفغان، فقدموا لتحرير بلدهم ما يربو عما قدمه الجزائريون مدة وعددا، ولكن قادة الحرب لديهم كانوا أحرص الناس على نقاء الراية التي جمعوا الناس من حولها ونقاء سريرة الذين يمشون على دربها. وبدا أثر ذلك الحرص والإخلاص لاحقا في المفاوضات مع الغزاة رعاة الأبقار، فالأفغان لم يتنازلوا عن قيام الإمارة الإسلامية مهما كلفهم الأمر من أثمان، وكان لهم ما أرادوا. وباتوا اليوم أسعد الناس بالتضحيات، يمضون في بناء دولتهم على أسس متينة، لا تزال في مراحلها الأولى، لكنها مراحل طبيعية، تسلم لقيام دولة مسلمة عصرية، متحضرة حضارة من وحي الإيمان والسياسة الشرعية.

تجديد البيان

الشعب الجزائري يحتاج إلى نداء وطني من أجل تفعيل الإسلام في السياسة والحكم كنداء الفتح من نوفمبر لتصحيح مسار الدولة الجزائرية، لأن معضلة الجزائر تكمن ها هنا وليس في مكان غيره، وما عدا ذلك تفاصيل، تفاصيل شاردة في متاهات التبعية والتجريب والارتجال، وكلها آفات تنخر في كيان الدولة منذ الاحتلال الفرنسي للبلاد.

إن واجب التذكير بمعالم جمهورية جديدة في الجزائر، هي الأمل الوحيد الذي تبقى لأهلها من أجل دولة حديثة ذات سيادة في إطار المبادئ الإسلامية، تمتد بها الجذور إلى القائد الأمير عبدالقادر بن محيي الدين الجزائري،
نداء سلمي يقوده أحرار الأمة، وليس أولائك الذين "يتحسّبون كثيرا" لموازين الربح والخسارة إن هم شاركوا فيه، والحق بين لا لبس فيه، فلكل جزائري الحق بأن يخاطب أي مسؤول في البلاد عن مصلحة الشعب كما يراها، فكيف إذا كانت المصلحة عليا، لها صلة بأمانة الله الكبرى، التي من أجلها خلق الإنسان.

قد لا تستطيع الكلمات حيلة ولا يهتدي صاحبها سبيلا في إبلاغ المعاني إلى المتلقي، فيكون من الكائنات الحية أصدق التعبير وأبلغ الأثر. ولكن للناس في قراءة تلك الرسائل مذاهب شتى؛ فمنهم اللبيب يلتقط المعاني من الإشارة، ومنهم من يحتاج إلى العبارة، ومنهم دون ذلك. وفي خضم هذه الآيات التي تترى في حياتنا المعاصرة، لتذكر الناس بالله قبل أن تنقضي الأعمار، تعاني بلادنا الجزائر من مكابرة سياسية شقت على البشر، كما شقت على الشجر والحجر، فكان لهذه المخلوقات تأوه وحنين.

في سير الصالحين من عباد الله بغية للمرء في الحياة، خاصة ممن كانت لهم في الأرض علامات. وإعادة النظر في ما صنعه هؤلاء من وعي لأمتهم يغني الخبرة في ما هو مؤمل من خير قادم بحول الله. لا أحد معصوم من النقد مهما علا شأنه إلا ساكن يثرب (عليه الصلاة والسلام).

لن تتعب نفسك طويلا عندما تقارن الطبقة السياسية في الجزائر بنظيراتها في الدول المحترمة، لتخلص على عجل إلى الفروق الصارخة فيما بينها قولا وعملا. وليت السياسيين الرسميين، ومن يحوم حماهم، لم يعدوا الأمة بإصلاح ما أفسدوه، هم والعصابة التي عاشروها طويلا طويلا.. لقد كان عرقوب لهم مثلا، وما مواعيدهم إلا الأباطيل. تلكم أخلاقيات سياسية، تحتاج إلى سياسات أخلاقية.

إن واجب التذكير بمعالم جمهورية جديدة في الجزائر، هي الأمل الوحيد الذي تبقى لأهلها من أجل دولة حديثة ذات سيادة في إطار المبادئ الإسلامية، تمتد بها الجذور إلى القائد الأمير عبدالقادر بن محيي الدين الجزائري، بعد طول شرود، وشقاء ومرود. هل ترانا سنسعد يوما بكرامة ذلك لو تحقق في الغد القريب، أم أن البون دونها أمسى بعيدا، والنضال في سبيلها بات عسيرا؟ يتركز جل اهتمام من يقارع الاستبداد السياسي على "شرعية" السلطة القائمة، قاصدا بذلك استمداد الحكم شرعيته من تفويض شعبي ديموقراطي، ونادرا ما يتعداه إلى التفكير في "مشروعية" ذلك الذي ينادي به. ونعني بـ"المشروعية" سلامة النظام السياسي من المخالفة الشرعية؛ لكون الشريعة محجة لا مزاح فيها مع مالك الإنسان والكون والحياة؛ وذلك ثقب أسود تعثر الآراء فيه، وعثرة الرأي تردي.

[email protected]
التعليقات (0)