قبل أن نباشر بتقييم «حرب
لبنان»، لجهة الأسباب والمسار والنتائج، وهو أمر غاية في الأهمية، لا بدّ من أن نحاول أولاً تلمّس موقع تلك الحرب، التي أعلن رئيس أقوى دولة في العالم، عن اتفاق وقف إطلاق النار بشأنها، في السياق الحقيقي الذي ينتظمها. على أن الأهمية الفعلية لا تكمن في «مَن» أعلن نهاية الحرب، بل بالدرجة الأولى في ما قاله الرئيس الأمريكي أثناء الإعلان، بشأن المعركة، وموقعها، وموقف إدارته من أطرافها.
ومن خلال نظرة تاريخية سريعة، يظهر أنّ أهم التبدلات والتحولات في العالم كانت نتاج صراعاته، وخصوصاً تلك ذات المدى والتأثير الشاملين، كالحربَين العالميتين الأولى والثانية. فالأخيرتان تفاعلتا، بشكل وثيق، مع إحراز تقدم نوعي في حقول الإنتاج وأزمات النظام الإقطاعي، ما أطلق «الثورة الصناعية» في أوروبا، بدءاً من منتصف القرن الرابع عشر. واقترنت تلك الثورة، بدورها، بتقدم العلم وبالصراع من أجل كسر احتكاره، من قبل الكنيسة آنذاك، ومن ثمّ تسخيره لتطوير وسائل الإنتاج، من أجل زيادة الكمية والأرباح وكسب النفوذ، وتغيير التوازنات في مجالَي الملكية ونمط الإنتاج السائدين والعلاقات الاجتماعية القائمة، إلخ.
أطلقت الثورة الصناعية الطبقة البورجوازية، وحوَّلت الملايين من عبودية الإقطاع باتجاه استغلال رأسمالي كان، هو الآخر، شديد الوطأة عليهم، ولا سيما في مراحله الأولى. آنذاك، تفاعل مع معاناة هؤلاء عدد من الكتّاب والمفكرين الأوروبيين، ومن بينهم إميل زولا، الذي كان الأكثر تأثيراً، ولا سيما في كتابه «جارمينال».
ركّز زولا، مع مفكّري وأدباء وفلاسفة «التنوير»، على دور الفرد وحقوقه إزاء تعسف الاستغلال الرأسمالي الذي ولَّد أشكالاً جديدة من المعاناة والمآسي. ومع تحوّل الرأسمالية إلى المنافسة الاحتكارية، تبلورت هياكل اجتماعية وآليات استغلال رصدها كارل ماركس ورفيق فكره وكفاحه إنجلز، وتوصّلا إلى استنتاجات عبقرية حول دينامية عمل النظام الرأسمالي.
واللافت، أنّ مارك وإنجلز لم يتوقفا عند ما هو «إنساني» مبني على التعاطف الأخلاقي والفردي فحسب، بل انطلقا منه لاكتشاف ديناميات الاستغلال والاغتراب وتطور حركة رأس المال مع توطده وتوسعه، وكشفها إلى العلن. إلى ذلك، شدّد المفكران على دور الصراع الطبقي كعابر لكل المراحل والأنماط، ورافعة للتغيير والتقدم.
وأبرزا العلاقة السببية الجدلية، بين البنى الاقتصادية الإنتاجية والبنى الفكرية والأدبية والسياسية والفنية والقيمية وغيرها. وبالعودة إلى الثورة الصناعية، فقد أطلقت الأخيرة، في طورَيها الأوّلَين، أي المنافسة ورأسمالية الدولة الاحتكارية، صراعاً اتخذ طابعاً كونياً، وتخلَّلته حربان عالميتان. الأولى، بين الإمبراطوريات القديمة والجديدة، فيما كانت الثانية تهدف إلى إعادة توزيع خريطة النفوذ والأسواق والمواد الأولية والمواقع الاستراتيجية، إلخ.
وما بين الاثنتين، انبثقت أول دولة اشتراكية في العالم في روسيا، كما تمّ وضع الأساس السياسي، عبر»وعد بلفور» البريطاني، لإنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين. وكانت المحصلة أن فرضت التوازنات والمناورات والتقاطعات اصطفافاً جديداً ما بين قوى النازية والفاشية والإمبراطورية اليابانية من جهة، وبين المعسكر الغربي والدولة الاشتراكية الأولى في العالم، روسيا السوفياتية، من جهة ثانية.
الولايات المتحدة، كقوة جديدة صاعدة بزخم استثنائي في الحقول كافةً، قطفت، في تلك الحقبة، أكبر الثمار، على الرغم من أنّها قدمت أقل التضحيات. وخرجت كدولة عظمى أولى في العالم، يليها الاتحاد السوفياتي الذي تحمّل العبء العسكري والبشري والعمراني والاقتصادي الأكبر خلال الحرب.
وشكّل الطرفان ثنائية قطبية حكمها توازن دقيق، في إطار ما سمّي الـ»حرب الباردة». وهي حقبة شهدت انطلاق موجة تحرّرية غير مسبوقة في دول العالم الثالث، من مثل فييتنام والجزائر وغيرهما. انتهت «الحرب الباردة» بانهيار الاتحاد السوفياتي رسمياً عام 1991.
ومذّاك تقف واشنطن منفردة على قمة الكون، وتقود موجة متواصلة من السيطرة والهيمنة، كان من أبرز نتائجها، على صعيد منطقة الشرق الأوسط عموماً والمنطقة العربية خصوصاً، الاعتراف الدولي بالكيان الصهيوني. في الواقع، استشعر الغرب، ومعه الكيان الصهيوني، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، انتصاراً «حاسماً».
وبلسان عدد من المفكرين والمنظّرين، أعلنت واشنطن «نهاية» التاريخ، لمصلحة نظامها، بالمعنى الاقتصادي والأمني والعسكري والسياسي والثقافي والسلوكي. بطبيعة الحال، لم يصبح العالم «أفضل» بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته، بل إنّ مبالغة واشنطن خصوصاً، بالانتصارية والتفرد، جعلها تتحوّل إلى امبراطورية شريرة وإرهابية للاستغلال والجشع والقهر، أكثر من أي مرحلة في التاريخ.
نتيجة لذلك، فإنّ عوامل عديدة، من بينها المنافسة والصراعات والتطور الاقتصادي والدفاع عن المصالح الوطنية، أطلقت، أخيراً، موجة جديدة من رفض الأحادية، بدأتها موسكو بقيادة فلاديمير بوتين، بعد احتلال العراق عام 2003، وتكرست في سياسة روسيا الوطنية الخارجية، بدءاً من عام 2006.
من جهتها، تواصل بكين، بقوة، مشروع النهوض التنموي والإنتاجي، الذي جمع ما بين دينامية السوق وأفضليات التخطيط المركزي والقطاع العام. وقد أنتجت تحالفات موسكو وبكين، سواء تلك التي تتم من خلال مبادرات منفردة أو منسقة بينهما، دينامية جديدة في العالم، انبثقت منها تكتلات قارية ودولية، أبرزها تجمّع دول «البريكس».
وفي خضمّ تلك التحولات، برزت، كذلك، مبادرة ريادية استراتيجية من الناحيتين الاقتصادية والتجارية (بمدى يشمل 67 دولة)، عُرفت باسم «الحزام والطريق»، كما عززت موسكو مشاركاتها الدولية، الأمنية والعسكرية والسياسية، عبر التدخل في سوريا في أيلول عام 2016، مساهِمةً، بشكل فعّال، في إحباط مشروع السيطرة الأميركية - الصهيونية على دمشق. وفي السياق نفسه، تندرج العملية العسكرية الروسية الخاصة والاستباقية، ضد استفزازات ومشاريع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، الذي كان قد تحوّل وفريقه إلى أداة في يد واشنطن في أوكرانيا. لذا فإن التحركات الروسية والصينية المشار إليها، تنضوي بمجملها تحت عنوان رفض التفرّد الأميركي والدعوة إلى عالم متوازن ومتعدد الأقطاب.
تزامناً مع ذلك، تبلور دور إقليمي مثابر للجمهورية الإسلامية الإيرانية في مناهضة مشاريع السيطرة الأميركية - الصهيونية على المنطقة العربية.
واكتسب هذا الدور أهمية كبرى نظراً إلى الدعم الكبير الذي قدمته طهران للمقاومات العربية، جنباً إلى جنب النجاحات التي حققتها في حقول إنتاج الأسلحة الدفاعية المتطورة، وعلى رأسها الصواريخ والمسيّرات. يُضاف إلى ما تقدّم، العلاقات المتنامية باستمرار التي نجحت الجمهورية الإسلامية في إرسائها مع موسكو وبكين، ما أنشأ نقطتَي استقطاب جديدتين في العالم، في نطاقهما ترتسم خريطة الصراعات الأساسية الراهنة في كل العالم.
طوفان الأقصى ومن ثم حرب غزة ولبنان هما محطّتان مهمتان ومشتعلتان في الصراع الكوني
بناءً على ما تقدم، بالإمكان القول إنّ الولايات المتحدة الأميركية تُقاتل، حالياً، بضراوة للدفاع عن سيطرتها وهيمنتها الهائلتين في كل أنحاء المعمورة، بأشرس الوسائل وأشدّها بربرية. بدوره، فإنّ الكيان الصهيوني الذي انبثق من رحم الأساطير والعنصرية والعدوان، وفي كنف الرأسمالية الإمبريالية، يقاتل اليوم من أجل ترسيخ مشروعه العدواني الاغتصابي في كل فلسطين والمنطقة وتوسيعه، بدعم شرس من رعاته في واشنطن والغرب الاستعماري وأدواتهما المحليين.
بصورة أعمّ، فإنّ «طوفان الأقصى»، ومن ثمّ حرب غزة ولبنان، هما محطّتان مهمتان ومشتعلتان في الصراع الكوني الآنف الذكر. أمّا مسار المعركة ونتائجها بين المقاومة اللبنانية والعدو الصهيوني وحلفائه، منذ السابع من أكتوبر حتى وقف إطلاق النار فجر الأربعاء الماضي، فنتناولهما في المقال القادم.
الأخبار اللبنانية