لم يكن أحد يتوقع أن يصدر من السيد أحمد
التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية تصريح يخالف تماما ما دأب على التنظير له
بخصوص إمارة المؤمنين وثوابت الدولة
المغربية، والوحدة المذهبية للمغاربة، ففي الإثنين
الماضي، صرح أمام مجلس النواب المغربي، أنه أخبر وزير الداخلية الفرنسي على هامش
زيارة ي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة للرباط، بأن المغرب بلد علماني،
وكشف أنه قال له "إن الفرنسيين مقتنعون أن الإسلام المغربي المعتدل في صالح
الجميع"، ليرد عليه الوزير الفرنسي "
العلمانية تصدمكم"، ليجيب
التوفيق بالقول "لا، لأننا علمانيون".
مثل هذا التصريح لم يكن ليمر دون أن يثير
نقاشا حيويا، ويدفع الوزير إلى توضيح مقصوده لموقع إخباري، وأنه كان يعني بكلامه
أن المغرب يتمتع بحرية التدين، وأنه لا إكراه في
الدين في الإسلام، فالدين يمارس
على أساس الحرية".
هذا التوضيح، الذي نقله موقع إخباري واسع
الانتشار، لم يكن كافيا بالنسبة إلى التوفيق، فاضطر مرة أخرى، للخروج إلى التوضيح
في كلمة له بمجلس المستشارين (الغرفة الثانية في البرلمان المغربي) الأربعاء
الماضي، فأشار إلى أن العلمانية مفهوم فلسلفي له جذور تاريخية، وبخاصة في تاريخ
فرنسا، وأنها تتعلق بأربعة أمور أساسية هي الحرية والعقل والأخلاق (العمل الصالح)،
والمعنى.
وأضاف التوفيق في كلمته أن فصل الدين عن
الدولة يعني أن الدولة معنية بالإجابة عن سؤال المعنى، وهو ما لا يوفره الدين المسيحي غفي المجتمعات
الغربية، مشيرا إل أن المغرب يختلف عن الحالة الغربية، في هذا السياق بوجود "إمارة
المؤمنين" التي تحمي الدين وتستند إلى البيعة التي تعني التزام الحكام بحماية
الدين والأمن والعقل والمال والكرامة، موضحا بأن قضية الأخلاق والحرية مشتركة، إذ
في المغرب، لا يوجد إكراه في الدين، ويسمح لكل فرد بممارسة دينه بحرية، وأن السلطة
لا تفرض الصلاة على المغاربة رغم أن المغاربة متمسكين بدينهم.
وحتى يقرب أحمد التوفيق المقصود بتصريحه،
أضاف بأن النقاشات السياسية في المغرب، كما في معظم الدول، تدور حول مصالح البلاد،
وأن ممثلي الأمة يعتمدون على العقل الذي تربى على القيم الإسلامية في اتخاذ
القرارات التي تعود بالنفع على المجتمع، وأن الأمور الدينية القطيعة يتولاها أمير
المؤمنين.
نقاش في المستوى المفاهيمي
في الواقع، تتداخل عدة مستويات في فهم تصريح
السيد الوزير، فلا ندري على وجه التحديد، إن كان البعد المفاهيمي أو القانوني
السياسي أو السياقي هو المؤثر في هذا التصريح.
مفاهيميا، لا شيء يدعم وجهة نظر السيد
الوزير، فالعلمانية بمختلف تعريفاتها تحيل إلى الفصل بين الدولة والدين، أو
بالأحرى عدم تدخل الدولة في الدين، وإذا كانت التجارب العلمانية في الولايات
المتحدة الأمريكية وأوربا، تحتفظ بقدر متفاوت من تأثير الدين في الفضاء العام،
لاسيما في التجربة الأمريكية، لكنها جميعها لا تسمح بأن تكون للدولة عقيدة دينية،
تفرضها على المجتمع، أو تؤسس بها هويتها وشرعيتها، ولا تسمح لها بالتدخل بأي شكل
من الأشكال في الدين.
من هذه الزاوية، لا يمكن بحال وصف الدولة
المغربية بكونها علمانية، لأنها أولا قائمة على شرعية دينية، ولأن الدستور يشير
إلى وجود دين رسمي تدين به الدولة هو الإسلام، ولأن نظامها السياسي والدستوري،
تجتمع فيه وظيفتان، سياسية، يمثلها الملك بصفته رئيس الدولة وممثلها الأسمى،
والساهر على حسن سير المؤسسات فيها، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي... (الفصل
42)، ودينية، يمثلها أمير المؤمنين، الذي يقوم بحماية الملة والدين، ويضمن حرية
ممارسة الشعائر الدينية، ويمارس الصلاحيات الدينية بصفة حصرية...(الفصل 41).
والأكثر من ذلك، أن الحالة المغربية، نضجت
فيها تاريخيا صورة من صور التدين، ترعاها الدولة وتعدمها سياستها وتعززها، اصطلح
عليها السيد أحمد التوفيق بـ "الثوابت الدينية"، أو "الوحدة
المذهبية الجامعة للمغاربة"، فتحدث في درسه الحسني بعنوان:" تقديم درس
الثوابت الدينية للمملكة المغربية"(2012)، عن أربعة ثوابت هي إمارة المؤمنين؛
والمذهب المالكي في الفقه؛ وطريقة الجنيد في التصوف؛ والمذهب الأشعري في العقيدة.
ويكفي في هذا السياق أن نذكر ما قاله السيد أحمد التوفيق في شرحه لثابت "أمارة
المؤمنين، لنتبين وجه مفارقة الحالة المغربية للحالة العلمانية، فإمارة المؤمنين
في أصلها ـ حسب هذا الدرس الحسني ـ هي "خلافة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
الذي بلغ الرسالة وعلم الدين وأسس الأمة وأقام الدولة والذي بوفاته تمت الرسالة
وبدأت مرحلة جديدة في التبليغ وفي حياة الأمة والدولة على عهد الخلفاء الراشدين
الذي ترسخ فيه قيام إمارة المؤمنين على البيعة واكتسبت عمقها في الجمع بين شؤون
الدين والدنيا"، فهذا التحديد المفاهيمي الذي بسطه أحمد التوفيق نفسه، يبين
بأن الدولة المغربية ليست علمانية لسبب بسيط، هو أنها تقوم على شرعية دينية، وتدير
الشأن السياسي (الدولة) والديني (الدين) معا، وتدعم نموذجا من التدين، يرمز للوحدة
الدينية بالمغرب، تتأسس على ثوابت تميزها عن باقي صور التدين الموجودة في البلاد
العربية والإسلامية الأخرى.
التأويل الذي اختاره التوفيق، لمفهوم
العلمانية، وأنها مجرد نظر في أمور الحياة العامة بمقتضى المصلحة، والتقدير
العقلي، وأن ممثلي الأمة، يعتمدون نفس المنهجية في تدبيرهم للحياة العامة، لا يمكن
تعديته وسحبه على كل المجالات، فقضايا مدونة الأسرة التي تضم ستة كتب منها الزواج
وانحلال رابطة الزوجية بجميع نتائجها، والأهلية والنيابة الشرعية والوصية
والميراث، كلها تخضع لنظر الشريعة، وتحكيم العقل والمصلحة، يأتي في سياق تبين الحقيقة الاجتماعية، أو ما يسمى فقهيا بتحقيق
المناط، أي وضع الحكم الشرعي في الواقعة التي يتنزل عليها.
في الحالة المغربية، يختلف الأمر كثيرا عن الحالة العلمانية، فالدين لا يزال يشكل مرجعية لبعض القوانين التي تؤطر الحياة العامة، ففي مدونة الأسرة، لا تزال مرجعية الشريعة هي الحاكمة، والملك باعتباره أميرا للمؤمنين، صرح أكثر من مرة بأنه "لا يمكن أن يحلل حراما أو يحرم حلالا"، والبرلمان، يكتفي بالمصادقة على مشروع مدونة الأسرة، بعد أن يكون قد نظر المجلس العلمي الأعلى لمدى توافقها مع الشريعة ومقاصدها العامة.
على أن الأمر لا تقصر على قضايا السرة، بل
يمتد أيضا إلى قضايا القانون الجنائي، إذ تتضمن العديد من البنود فيه عقوبات على
الإفطار العلني في شهر رمضان، وممارسة الشذوذ الجنسي، وشرب الخمر، والعلاقات
الجنسية خارج مؤسسة الزواج (تسمى بالتكييف الشرعي والجنائي جرائم الفساد، وتسمى
علمانيا بالعلاقات الرضائية).
وكثير من قضايا الحريات في المغرب، تخضع
لتقدير مختلف عن العلمانية الفرنسية، التي تحتكم إلى مبدأ الحرية، أي حرية الراشد،
إذ تؤطر عدة قوانين مثل قانون الصحافة والنشر، والقانون المنظم للعمل السينمائي
بضوابط عدم الإساءة للدين الإسلامي، وعدم نشر أي مواد خليعة أو مخلة بالآداب.
هذه الاعتبارات جميعها، تبين بأن المفهوم
الذي اختاره السيد أحمد التوفيق للعلمانية لا يستقيم، أو هو غير مكتمل، فالعلمانية
في حدها المفاهيمي الغربي (الفلسفي)، يعتمد مبدأ سيادة الإنسان، واستقلاله بوضع
القوانين، بمعزل عن إرادة الله، أي بمعزل عن الدين، وأن الأساس الذي يقوم عليه في
ذلك، هو العقل والتقدير المصلحي، دون تحكيم أي نصوص سابقة، أو حتى قواعد كلية أو
مقاصد عامة مستمدة من الدين كما هو الشأن في الحالة المغربية.
أما في حدها
التاريخي (أي التجربة التاريخية لتنزيل العلمانية وشكل تطبيقها على الأرض) فتقوم
على مبدأ حيادية الدولة اتجاه الدين، وعدم تدخلها فيه، وأن الأشكال التي تبقت من
دعم الدولة للكنيسة في شكل ميزانيات مالية في عدد من التجارب الأوربية مثل بلجيكا
وألمانيا، فإنها مقيدة بعدم تدخل الدولة في الشأن الديني، في حين تختلف الحالة
المغربية بشكل كامل عن ذلك، إذ تتأسس الدولة على شرعية دينية، وتدعم فكرة وجود
توجه مذهبي عقدي سلوكي، ترعاه وتعززه، وتقاوم غيره بحجة تهديد الوحدة المذهبية، وتعتبر نشر أي مذهب ديني آخر غير المذهب السني المالكي، يستهدف ثوابت الدولة المغربية، بل والأكثر
من ذلك، أن الدولة هي التي تضطلع بشكل
حصري بتدبير القضايا الدينية، وتسهر عليها، وتملك من خلال الخطاب الديني الذي يصرف
عبر المساجد، أن تضفي شرعية على سياساتها العمومية الأخرى، وأن تستعين بالحجة الدينية من أجل الإقناع بهذه السياسات وضرورة الانخراط
الواسع فيها.
نقاش في المستوى القانوني والسياسي
في المستوى القانوني والسياسي، تدعم
العلمانية فكرة إبعاد الدين بالمطلق عن تأطير الحياة العامة، وتؤسس لفكرة سيادة
الإنسان واستقلاله بنفسه بوضع القوانين بناء على المصلحة.
في الحالة المغربية، يختلف الأمر كثيرا عن
الحالة العلمانية، فالدين لا يزال يشكل مرجعية لبعض القوانين التي تؤطر الحياة
العامة، ففي مدونة الأسرة، لا تزال مرجعية الشريعة هي الحاكمة، والملك باعتباره
أميرا للمؤمنين، صرح أكثر من مرة بأنه "لا يمكن أن يحلل حراما أو يحرم
حلالا"، والبرلمان، يكتفي بالمصادقة على مشروع مدونة الأسرة، بعد أن يكون قد
نظر المجلس العلمي الأعلى لمدى توافقها مع الشريعة ومقاصدها العامة.
على أن الأمر لا يقتصر على مدونة الأسرة، بل
رأينا تدخل إمارة المؤمنين في مجال البنوك التشاركية، وكيف توقف إخراج الإطار
القانوني لهذه البنوك على رأي المجلس العلمي الأعلى، بل أكثر من ذلك، فثمة فتوى
مركزية، صاغها علماء المغرب بطلب من الملك الحسن الثاني رحمه الله، حول
"المصلحة المرسلة"، اعتبرت أصلا لمختلف القوانين الأخرى، وعلى هذا
الأساس، يكون تكييف تلكم القوانين الأخرى غير مدونة الأسرة على أنها من صميم إعمال
مبدأ شرعي يستخدم المصلحة في حال عدم وجود النص الشرعي.
وهكذا يتبين أنه حتى بالاعتبار القانوني
والسياسي، لا شيء يدعم فكرة علمانية الدولة، أو علمانية القوانين التي تشرع على
مستوى المؤسسة التشريعية، فهي إما داخلة في الحقل الديني، وتشرف عليها إمارة
المؤمنين، وتقيد بمراعاة مقاصد الشريعة، وإما تستمد شرعيتها من مبدأ كونها من
المصالح المرسلة التي يعتبرها الشرع عند عدم وجود النص.
والمفارقة، أنه حتى في الحالة التي تبدو
فيها إشكالات مرتبطة بمخالفة الشريعة، مثل قضية ربا البنوك، فقد ألقى السيد أحمد
التوفيق السنة الماضية، درسا حسنيا قدم فيه "اجتهادا" بين فيه أن
الفائدة البنكية ليست هي عين الربا، وإنما هي الفارق في قيمة النقد بين زمن
الاقتراض وزمن الأداء، ولو كانت الدولة علمانية، لما تكلف السيد أحمد توفيق هذا
الاجتهاد الذي يخالفه فيه أكثر علماء الشريعة.
نقاش في المستوى السياقي
يبقى في الأخير أن نختبر الاعتبار السياقي،
ومضمونه أن خطاب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد التوفيق ليس موجها
للداخل، وليس تعبيرا عن حقيقة الدولة المغربية ونظامها السياسي، وإنما هو خطاب
موجه للخارج، مؤطر بخدمة مصلحة وطنية ما.
ما يوضح ذلك، أن سياق التصريح يكشف أنه كان
مع وزير الداخلية الفرنسي، وليس درسا مفاهيميا تقدم به السيد التوفيق في مدرج
بالجامعة أو درسا حسنيا بين يدي أمير المؤمنين، وليس جوابا عن فريق برلماني أو حزب
سياسي أو وسيلة إعلامية، وإنما هو خطاب للخارج، يقصد به توصيف حالة من التدين
النموذجي (النموذج المغربي) أثبت نجاحه في العالم العربي، وهو موجه إلى دولة أجنبية (فرنسا) تواجه تحديات
كبيرة على مستوى تنظيم مؤسسات ممارسة المسلمين للعبادة، وتتوجس من الجماعات
الإسلامية الراديكالية، بل وتحاول أن تبحث عن صيغة سيادية لتدبير عبادة المسلمين
وسط تنافس محموم بين أكثر من صورة من صور التدين، وأكثر من دولة، تريد أن يكون لها
مدخل في هذه السياسة.
من الواضح جدا، أن السيد أحمد التوفيق، كان
يوجه خطابه للفرنسيين، لمحاولة إقناعهم بأهمية استلهام النموذج المغربي المعتدل في
التدين، والتنسيق مع المغرب بهذا الصدد، والتمكين للنموذج المغربي في ارتياد آفاق
أخرى بعد أن أصبح الطلب عليه في أكثر من محور.
ولذلك، يمكن أن نعتبر توضيح التوفيق
الاستدراكي، هو نوع من التخفيف من آثار سوء فهم لتصريحات كانت موجهة للخارج، فكان
اختيار الإشارة إليها في البرلمان مثيرا للجدل، فأراد من خلال الإحالة إلى مفهوم
"حرية التدين وعدم الإكراه في الدين"، ومفهوم "انبناء السياسات
العمومية على مبدأ التقدير المصلحي الذي يتدخل فيه العقل"، محاولة مند
لاحتواء أي تأويل لكلامه، وأنه لا يعني بأي حال من الأحوال وجود سياسة تقوم عليها
الدولة أو يقوم عليها من موقعه لعلمنة الدولة والمجتمع.
في المحصلة، يكشف التصريح والتوضيحات
المتعاقبة، أن السيد وزير الأوقاف كان واعيا بضرورة بعث رسالة إلى فرنسا
بخصوص اعتدال التدين المغربي، وأنه ألأكثر قربا من غيره للصورة العلمانية
الفرنسية، لكن العبارات التي اختارها في التصريح، أوقعته في مشكلة في السياق
الداخلي، إذ وضعته عباراته في خصومة شديدة مع دروسه الحسنية، التي كان ينظر فيها
لهوية الدولة التاريخية، وشريعتها
الدينية، وثوابتها ووحدتها الدينية والمذهبية، ولوظائف إمارة المؤمنين، واختصاصها بشكل حصري بإدارة الحقل الديني بمختلف
مؤسساته، كما وضعته في حالة تعارض مع دستور البلاد، ومع ثوابت المجتمع واختياراته.