هنا تتبعثر بقايا ملابس ومعلبات، ودفء موقد حطب خبا مع ذهاب مشعليه، لتنضم إلى آثار خربة (
عين حجلة) المهجرة في الأغوار الفلسطينية، والتي تحتضن بقايا منازل قديمة مبعثرة مبنية من الحجر، بينما أحاطت أشجار النخيل، في هذا المكان، قبل أن يطرد الاحتلال سكانها فجر الجمعة 7/2/2014.
فعلى مدار سبعة أيام دبت الحياة في الخربة بعدما أعلن
نشطاء فلسطينيون في نهاية شهر كانون الثاني الماضي عن إطلاق حملة "ملح الأرض"، وذلك بإحياء "قرية عين حجلة" على أراضي كنيسة تابعة لدير حجلة، في المناطق المسماة (ج)، والمحاطة بأراض زراعية للمستوطنين تمركز حولها معسكر لجيش الاحتلال، وتتكون الأراضي التابعة للدير من حوالي 1000 دونم تمت السيطرة على جزء منها من قبل جيش الاحتلال بحجة "دواع أمنية".
قال النشطاء وقتها إن الحملة ضمن إطار المقاومة الشعبية وتهدف لمناهضة قرارات الاحتلال بتهويد وضم الأغوار وإحياء قرية فلسطينية كنعانية الأصل في منطقة الأغوار الفلسطينية بالقرب مما يسمى (شارع 90) الواصل بين البحر الميت وبيسان. القرية التي ازهق الاحتلال حياتها للمرة الثانية، لفتت الأنظار إلى قضية الأغوار والهجمة الاستيطانية المستعرة والتي استنزفت سلة فلسطين الغذائية، متحدية سعي الحكومة الاسرائيلية ضمها.
سبعة أيام ستظل محفورة في عقول سكانها (150 متطوعا) وغالبيتهم من الشباب، كما قالوا لـ"عربي21"، ففيها لخصت معاناة الفلسطيني وأرضه.
سبعة أيام عجاف
المتطوع الشاب مسعود ياسين الذي كان ضمن سكان القرية قال: "قرية عين حجلة ليست اسما يضاف على قائمة قرى بنيت وهدمت فقط، وإنما كانت من أقوى رسائل المقاومة الشعبية ضد الاحتلال وهمجيتة في الاستيلاء على الأرض وتحويلها لمستوطنات، ومن أقوى الرسائل وأكثرها صمودا وتحديا، فالسكان الذين أحيوا القرية أخذوا على عاتقهم مبدأ الثبات بعدما كسروا حواجز الخوف والصمت".
وأضاف، "المتطوعون تحدوا الاحتلال بعدما منع الطعام والشراب والأغطية ومواد أساسية من الدخول رغم قسوة البرد، الاحتلال ظن أننا لن نصمد سوى يوم أو يومين، إلا أنه تفاجأ بأن العدد بدأ يزداد والحياة ترجع لمنطقة سكانها هجروا منها بالقوة عام 1967".
ولا تغيب عن مسعود ذكريات اليوم الأول حيث قام المتطوعون بتنظيف المكان وترميم بعض البيوت مع محاصرة قوات الاحتلال للمكان وتزايد عدد سكان القرية من الشباب المتطوع وعدد من الشخصيات السياسية والشعبية.
وأضاف مسعود أن "عمر القرية القصير كان مزدحما بالفعاليات والأنشطة، فهناك فريق يقوم بالتنظيف وإعداد المكان وجمع الحطب بينما تقوم مجموعة أخرى بتجهيز شاشة لعرض الفيلم الفلسطيني (عمر) الذي يعرض حاليا بدور السينما، ويقوم آخرون بزراعة الأشجار في المكان الذي عمل الاحتلال على دفن معالم الحياة فيه؛ وحالما يحل المساء يبحث المتطوعون بين المعلبات الموجودة مثل الحمص والفول إلا أنهم واجهتهم صعوبة فتح بعض المعلبات لعدم وجود أداة لذلك، كان الطعام محدودا وتم الاقتصاد في توزيع ما توفر منه".
ويستحضر مسعود ليالي (قرية عين حجلة) التي كانت ما بين إلقاء للقصائد ومسابقات مختلفة والاستماع للأغاني الوطنية التي تحاول كما قال دفع الدفء في الجسد مع برودة الجو القاسية ليلا، وكان قسم من السكان يحرس القرية خوفا من هجوم مباغت من الاحتلال وقسم آخر ينظف المكان، وقسم يخلد للراحة والنوم بعد يوم حافل بالفعاليات.
وخلال الأيام السبعة عمد الاحتلال على محاصرة المكان وإقامة الحواجز واستفزاز المتواجدين، وأقدم على قطع الخرطوم الذي يزود سكان (القرية) بالمياه، فما كان من المتطوعين إلا أن ذهبوا لإصلاحه وهم يهتفون للحرية ويغنون للوطن.
ويستذكر مسعود الساعات الأخيرة بقوله: "أتت قوة كبيرة شردت وهجرت السكان وضربتهم بهمجية ووحشية، بما فيهم من أطفال ونساء وشيوخ، كانوا حاملين الأمل بقلوبهم والراية في صدورهم" .
وأضاف، "قبل قرية عين حجلة كانت باب الشمس، وأحفاد يونس، وقرية العودة، والكرامة، وحي المناطير، ولن تتوقف القرى عن نبض الحياة، فالرسالة ستظل صامدة، وعين حجلة هي من نقاط التحول والتقدم والانتصار نحو الحرية والانتصار".
الساعات الأخيرة
ويروي الصحفي محمد مطر لـ"عربي21" ما حدث ليلة اقتحام الاحتلال للقرية بقوله: "اقتحام القرية كان أمرا متوقعا، وقع الأمر قرابة الساعة الواحدة بعد منتصف ليل الجمعة حيث شاع في المكان نبأ أن قوات من جيش الاحتلال تستعد لاقتحام القرية، عندها استنفر كل الموجودين في المكان".
وفعلا سرعان ما جاءت قوات كبيرة من جنود الاحتلال مشاة بين أشجار النخيل في القرية، وسرعان ما أخذوا بالزحف نحونا مطلقين قنابل صوتية، المعتصمون بدورهم حاولوا الثبات في أماكنهم، إلا أن الجنود بعددهم الكبير أخذوا بالضغط على المعتصمين من خلال دفعهم بقوة، وإيقاعهم أرضا، تكررت عمليات ملاحقة المتضامنين الفلسطينيين الذين تفرقوا في عدة جهات في أرجاء القرية".
الصحفيون والمصورون نالهم سوء المعاملة أيضا، فعلى الرغم من ارتداء الكثير منهم سترات عليها إشارات بارزة تدل على أنهم يعملون في الصحافة، إلا أنهم تعرضوا للعنف والدفع بشدة من قبل الجنود الإسرائيليين.
يشار إلى أن الاحتلال أصاب 41 من المتطوعين خلال عملية الاقتحام واعتقل آخرين.
رد شعبي على الاحتلال
بدوره اعتبر استاذ العلوم السياسية أيمن يوسف أن تجربة بناء (قرية عين حجلة) و(قرية العودة) في الأغوار لها معان عدة ومضامين إيجابية وإستراتيجية، "أول هذه المضامين: الرد الشعبي الفلسطيني على المخطط الإسرائيلي للاحتفاظ بالأغوار ضمن التسوية المؤقتة التي يحضر لها كيري، وأن الشعب الفلسطيني خاصة الشباب والقيادات الفلسطينية الشابة يقظون لمثل هذا المخطط الذي يستثني الأغوار على اعتبار أنها جزء من الفضاء الفلسطيني الجغرافي والزراعي والمائي". ثاني هذه الدروس "مرتبط بتفعيل نمط المقاومة الشعبية الفلسطينية السلمية والانخراط الواسع في فعالياتها حيث انتقالها من مواقع تقليدية مثل نعلين وبلعين والمعصرة وكفر قدوم وبيت أمر إلى الأغوار، وهذا يأتي ضمن خطة ورؤية واضحة لبناء تحالفات محلية ودولية متضامنة مع الفلسطينيين في جهودهم لإنهاء الاحتلال".
يذكر أن نشطاء فلسطينيون وأجانب أقاموا بعد ظهر يوم الجمعة (قرية الجودلة) في منطقة الجفتلك بالأغوار الوسطى بالقرب مما تسمى (مقبرة الأرقام) التي تقوم اسرائيل بدفن الشهداء الفلسطينيين فيها.