عندما تكررت الدعوة إلى علمنة الإسلام عام 1950 في كتاب الشيخ خالد محمد خالد "من هنا نبدأ"، نشرت مجلة
الأزهر عشر مقالات في عشرة أعداد لرئيس تحريرها العلامة محمد فريد وجدي، تحت عنوان "ليس من هنا نبدأ"، وذلك تعبيرا عن الموقف الثابت للأزهر الشريف من علاقة الدين بالدولة، والذي تعبر عنه السياسة الشرعية، التي تبرأ من كهانة دمج الدين في الدولة، ومن علمانية فصل الدين عن الدولة..
ولقد عاد الأستاذ خالد محمد خالد عن رأيه هذا ونشر كتابه "الدولة في الإسلام".
وفي أوائل تسعينات القرن العشرين، وعندما جرت في
مصر مناظرات حول
العلمانية ومعنى الدولة المدنية والدولة الدينية، عاد الأزهر ليؤكد موقفه الثابت من هذه القضية، فنشر مجمع البحوث الإسلامية كتاب "الإسلام والسياسة: الرد على شبهات العلمانيين".
وقدم الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق - شيخ الأزهر يومئذ - لهذا الكتاب بمقدمة مؤرخة في 29 حزيران/ يونيو عام 1992 جاء فيها: "إن العلمانية مذهب من مذاهب الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة، يدعو إلى عزل الدين عن أن يكون إطارا ضابطا للنشاط الدنيوي للإنسان، فيفصم العلاقة بين بين الشريعة الإلهية وبين الدولة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والسلوك، أي يعزل الدين عن الدنيا، وذلك باستثناء خصوصيات العقائد والشعائر العبادية.. ولقد نشأت هذه العلمانية في الغرب إبان نهضته الحديثة - كرد فعل لحكم الكنيسة وتحكمها - فهي حل غربي لمشكلة غربية، وليس هكذا الحال مع الإسلام والحضارة الإسلامية، فالإسلام منهاج شامل للدين والدنيا، للعقيدة والشريعة، والحضارة والأخلاق، للحياة الدنيا والآخرة، فالدعوة إلى إبعاد الإسلام - بالعلمانية - عن سياسة الدولة وشئون العمران هو قطع إحدى ساقيه وتعطيل لإحدى رئتيه، وكفران ببعض آيات كتابه، ينتقص من كمال واكتمال الإيمان بهذا الإسلام".
هكذا كان الموقف الثابت للأزهر الشريف من علاقة الدين بالدولة على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين، ومنذ أن عرفت بلادنا الجدل الفكري حول هذا الموضوع.
ولم يكن موقف الأزهر هذا مخالفا لتوجهات الدولة المصرية إبان تلك العقود، ذلك أن دساتير الدولة المصرية الحديثة قد اجتمعت على إعلان "أن دين الدولة هو الإسلام، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع"، كما اجتمعت على إعلان أن الأمة هي مصدر السلطات، فاتفقت هذه الدساتير مع الأزهر الشريف على رفض العلمانية والثيوقراطية جميعا.
وحتى دستور عام 1954 - الذي لم يوضع في التطبيق والذي وضعته لجنة رأسها فقيه الشريعة والقانون الدكتور عبد الرازق السنهوري - فإننا نقرأ في مضابط لجان وضع هذا الدستور على ما أمر به الإسلام. وأنه ليس هناك ما يسمح لنا بأن نعدل على نص القرآن. وأنه إذا وجد نص ديني صريح، فالحكمة والواجب يقتضياننا ألا نعارض النص، وأن نكون من الحكمة ومن الاحتياط بحيث لا نضر الناس في شعورهم ولا في ضمائرهم ولا في دينهم. وإذا احترمت الدولة الإسلام فلابد أن تحترمه جملة وتفصيلا، ولا يكون الإيمان إيمانا ببعض الكتاب وكفر ببعضه الآخر".
هذا موقف الأزهر من علاقة الدين بالدولة، وهو موقف سابق على نشأة الأحزاب والجماعات، ومستقل عن خلافات الأحزاب والجماعات، وهو ذاته موقف الدولة التي صاغته في دساتيرها الحديثة منذ عام 1927م وحتى الآن. وهو الموقف الذي عبر عنه كتاب الشيخ محمد الخضر حسين "ضلالة فصل الدين عن السياسة" الذي أهدته مجلة الأزهر إلى قرائها مع عدد ربيع الأول عام 1435هـ، إنه موقف ثابت، يجب أن يكون حاضرا أمام كل الذين يتحاورون حول هذا الموضوع.