كتب سمير مرقس: في لقاء جمعني مع بعض الشباب أخيرا، تتراوح أعمارهم بين الـ25 و35 سنة، بدأ الحديث بمجموعة الأسئلة الشائعة في مرحلة الاهتمام النسبي بالسياسة التي نشهدها في واقعنا
المصري.
أسئلة من عينة: «هو مصر رايحة على فين؟، أو يتم طرح السؤال هو هو بعد أن يجعله بصيغة الجمع: «إحنا رايحين على فين؟، أو انت مطمئن؟ إحنا مطلوب منا نعمل إيه؟...الخ. وبعد أن تلقفت «طلعة» الأسئلة التمهيدية، بدأت الإجابة، وحاولت أن أشرح ما أتصوره يفى الغرض، مجتهدا أن تكون الإجابة بلغة بسيطة ومنطقية ومنهجية.
بدأت حديثي، باستدعاء محمد على باعتباره بانى مصر الحديث، وكيف أقامها على أعمدة ثلاثة هي:
الجيش، والجهاز البيروقراطي، ومؤسسات الحداثة، واستطردت فى استعراض مسيرة الدولة الحديثة من جانب، ومسيرة الطبقة الوسطى من جانب آخر، وربط ذلك بالأسباب التى أدت إلى 25 يناير ثم 30 يونيو لاحقا، ومن ثم توقعات/ سيناريوهات المستقبل، ملخصا ما كتبته فى أكثر من تحليل فى كلمات قليلة ويسيرة الفهم. وفجأة قاطعنى أحد الشباب الحاضرين بأدب شديد قائلا: «هو أنا ممكن أسأل سؤال؟» فقلت له: «طبعا». وكان السؤال «القنبلة»: «هو قبل محمد على كان فيه إيه».
أسقط فى يدي، مر وقت، مترددا فى الإجابة، لعدة أسباب. أولا: لأن السؤال جاء خارج سياق ما نتحدث فيه تماما، ثانيا: لأن كلامى عن الدولة الحديثة يفترض بداية، إدراك الحاضرين، كيف كانت مصر قبل الدولة الحديثة، وكيف كانت تحكم، وكيف كان المحكومون من المصريين يعانون على مدى العصور المتعاقبة من حكام وافدين منذ التدهور الذى طال الأسرات الفرعونية قبل الميلاد؟ وثالثا: أن السائل متخصص فى تقنيات الاتصال وعلى مستوى علمى رفيع، وبعد أن تدافع كل ما سبق فى ذهني، سألته: «انت بتتكلم بجد؟»
أجاب بنقاء شديد وبهدوء الراغب فى المعرفة: «حقيقى أنا لا أعرف. ولا أذكر أننى درست أى شيء حول هذا الأمر»، وصمت برهة ناظرا إلى رد فعلي، ثم استطرد قائلا:» حتى ما تذكره حول الدولة الحديثة أنا بعرفه سماعى كده، ومش فاكر أبدا إن حد درسه لنا بالطريقة التى تتحدث بها عن الأحداث والشخصيات، والكلام عن الطبقة الوسطى، ودور الاقتصاد والصراعات الاجتماعية والسياسية». وجهت نظرى لباقى الحاضرين، وسألتهم: «ما رأيكم؟» فوجدت الجميع ـ تقريبا يتفقون ، بتفاوتات فى التفاصيل لا تمس جوهر السؤال المطروح: «هو قبل محمد على كان فيه إيه؟» وبعد محمد على بالتالي. ووجدتنى بدأت استعيد حقب تاريخ مصر من الأحدث إلى الأقدم: أى من محمد على إلى الأسرات الفرعونية. ثم البدء من الحقبة الفرعونية، مرورا بالحقبة القبطية(اليونانية/ الرومانية) والبيزنطية، والإسلامية، والعودة مرة أخرى إلى الدولة الحديثة.
وتبين لى أثناء هذا التمرين الثقافي/المعرفي/ التاريخي، الذى قمنا به: أفقيا ورأسيا للتاريخ، وذلك بمحاولة التعرف البسيط على بعض التفاصيل فى كل حقبة ومرحلة، أننا لا نعتنى بدراسة تاريخنا، وأن هناك من يتعمد ذلك. كما أنه لا ينبغى الحكم على شبابنا بأية أحكام، خاصة أن الواقع يقول إن من عرف تاريخ مصر بعمق قد عرفه من خلال جهد خاص، ومن مصادر موازية لمناهج التاريخ المؤسسية. واجتهدت فى أن أرشح كتابا يعرض تاريخ مصر بصورة بسيطة وفى نفس الوقت عميقة.
واقع الحال لم أجد كتابا يفى بالغرض. فالكتب التاريخية التى تصدر ثلاثة أنواع: النوع الأول: كتب مرجعية معتبرة والتى تعد مرجعا معتمدا وعميقا كتبت بعيدا عن المؤسسات التعليمية ـ إلا فيما ندر ـوتحتاج إلى مستوى ثقافى معين مثل: فى أصول المسألة المصرية لصبحى وحيدة، والتكوين الاجتماعى الاقتصادى المصرى لأحمد صادق سعد، والمواطنة المصرية لوليم سليمان قلادة، والثورة العرابية لصلاح عيسى،تاريخ الفكر المصرى الحديث للويس عوض، وتكوين مصر لمحمد شفيق غربال، الحركة السياسية فى مصر من 1945 إلى 1952 لطارق البشري، والأرض والفلاح لإبراهيم عامر..الخ. والنوع الثاني: كتب كتبها مؤرخون ينتمون لمدرسة التاريخ المصرية بمدارسها وهى كتب ذات طابع تخصصى فى موضوعات بعينها مثل: الدولة العثمانية لمحمد أنيس، كبار الملاك والفلاحين فى مصر لرءوف عباس وعاصم الدسوقي، والأحزاب المصرية ليونان لبيب رزق، تاريخ المسيحية الشرقية لعزيز سوريال عطية، مصر والمسألة المصرية لأحمد عبد الرحيم مصطفى..الخ. والنوع الثالث: الرسمى وهو لا يفى بالغرض.
الخلاصة، أقلقنى هذا الأمر جدا. فالذاكرة الحية للأوطان هى العاصمة من الوقوع فى نفس الأخطاء التى وقعت فيها هذه الاوطان تاريخيا. وعلينا أولا أن نراجع مناهج تاريخنا بشكل سريع بصورة غير نمطية من جهة، وأن نبدع فى كتاب تاريخ معتمد لحركة المصريين عبر التاريخ. وقد حاولت أن أطل على هذه المناهج لمعرفة كيف يتم تدريس التاريخ فى مدارسنا. ونواصل..
(الأهرام المصرية)