فلما كان صباح يوم العيد، جلست أمام التلفزيون
المصري، وهو ينقل صلاة العيد، من مسجد " قيادة القوات الجوية"، وقد حضر الحرس، وغاب المصلون. ومع ذلك كان الوضع قلقاً، والوحيد الذي شعر بالأمان المفقود في أماكن أخرى، هو وزير الداخلية فانتهز الفرصة، ونام!.
في البداية تم الإعلان عن أن
السيسي سيحضر صلاة العيد في المسجد الذي بدأ منه النقل علي الهواء، دون حضور المذكور، لكن كان الحاضرون أعينهم في منتصف رءوسهم، إذ كانوا في حالة قلق، وزعيمهم المفدى، يسيطر عليه الهاجس
الأمني، بشكل جعله يخالف تقاليد مستقرة؛ بأن يزور الرئيس في الاحتفال بثورة يوليو من كل عام، ضريح جمال عبد الناصر، ويضع إكليلاً من الزهور علي قبر الجندي المجهول.
السيسي وهو خائف يترقب، تجاوز كل التقاليد، بما فيها تقاليد الانتخابات، فلا مؤتمرات عقد، ولا لقاءات جماهيرية فعل، وكنا أما بدعة جديدة، وهي أن ممثلي الناخبين هم من ينتقلون إلي المرشح حيث " يأمر".
ومن التقاليد كذلك أن يصلي الرئيس الجمعة الأخيرة من رمضان رسمياً، وتنقل الصلاة علي الهواء مباشرة، حيث تنضم شبكات الإذاعات المحلية، والبرنامج العام، وصوت العرب، وإذاعة القرآن الكريم، إلى التلفزيون الرسمي.
أعتقد أن مبارك توقف في آخر رمضان له في الحكم، عن عادة الصلاة الرسمية لهذه الجمعة التي تسمي شعبياً "الجمعة اليتيمة". وعقب عودته من ألمانيا بعد رحلة العلاج الشهيرة، جلس ولأول مرة في الصف الأخير. وكتب الراحل مجدي مهنا مرجعاً الأمر للدواعي الأمنية. ولم يكن هذا صحيحاً، والصحيح أن مبارك الذي أجري عملية في "ظهره" كان بحاجة لأن يريحه بالاستناد علي الجدار!.
مبارك كانت عنده فكرة عن طريقة الجلوس في المسجد، وهي ثقافة يفتقدها السيسي ومن حوله، إذ بدا عليهم عدم الإلمام بها، وكانوا يتعذبون في جلستهم، وظهر الواحد منهم بأكثر من جلسة في صلاة العيد.. فشعرت وأنا المشاهد بمعاناتهم!.
في "الجمعة اليتيمة" غاب السيسي وحضر رئيس حكومته إبراهيم محلب، والذي تعرض وهو يصلي، لنوبة إجهاد، بينما كان الإمام الذي هو وكيل وزارة الأوقاف يتلو آية الحرابة. وقد تم رفع الفيديو علي "اليوتيوب"، وانشغل المعلقون بالتأكيد علي تأثره بالآية التي تتحدث عن الذين يحاربون الله ورسوله، ولم ينتبهوا للقراءة الخاطئة للإمام الذي رفع منصوباً، رغم منصبه الديني!.
لأن المرض عند السياسيين عورة، فقد أنكر إبراهيم محلب أن يكون مريضاً، أو مجهداً، فأكد علي أن ما تعرض له هو " شد عضلي"، لأكثر ولا أقل، رغم أنه تسول يد من بجانبه ليضعها علي موضع القلب، وبالغ الآخر في عملية الوضع من باب المجاملة!.
أشفق أحياناً علي إبراهيم محلب، فما يجري في حالته، هو تمثيل بالجثث، فهو في هرمه، تم تعيينه رئيساً للحكومة، لأن فيه من "رائحة الحبايب" فهو عضو في لجنة السياسات التي تتبع الحزب الوطني الحاكم في عهد مبارك، والتي كان يترأسها نجله جمال، مع انه بحكم عوامل التعرية، كان من المفترض أن يلجأ للراحة والدعة.
محلب ليس فيه من الخصال التي تجعله منافساً للسيسي، فليس سياسياً، وليست له تطلعات سياسية، وما هو بوسيم وجاذب للسيدات، ولا هو محسوب علي أي تيار سياسي، كما أنه بدون مرجعية فكرية، فهو فيه من المميزات ما يجعله "لقطة"، ومرءوس جيد، لأي رئيس فارغ المحتوي والمضمون.
وتبدو المشكلة في أن عبد الفتاح السيسي قد وضع رجليه في الماء البارد، ووضع بكافة المسؤوليات على كاهل الرجل المسن إبراهيم محلب، بما فيها أن ينوب عنه في صلاة "الجمعة اليتيمة"، لأن مثله لا يمكنه أن يصلي في مسجد كالجامع الأزهر، وكان يمكن أن يختار أحد الثكنات العسكرية ليصلي في مسجدها، لكن أمره سيكون مكشوفاً للعيان، إذا ما صلي الجمعة في ثكنة وفي اليوم التالي صلى العيد في ثكنة أخرى.
مبارك كان يسيطر عليه الهاجس الأمني، لكن ليس بذات الجرعة الخاصة بالسيسي، فقد رأي الموت بعينيه في حادث المنصة، وشاهد السادات سابحاً في دماءه، ومع هذا كان يصلي "الجمعة اليتيمة" في مسجد عام، والعيدين في مسجد لأحد الجيوش، فنشاهد كبار القادة والضباط بملابسهم العسكرية. لكن السيسي يبدو وللدواعي الأمنية اختاروا له مسجداً علي "الفرازة"، وهو مسجد "قادة القوات الجوية"، وهو مسجد لم نسمع به في زمن مبارك، مع انه كان الأقرب إليه بحكم التخصص وقواعد الولاء القبلي. فمبارك شغل من قبل قائد القوات الجوية.
في المسجد المختار، لم نشاهد ضباطاً وإنما شاهدنا حراساً يبدو أنهم بتصرفاتهم ليس أعلي رتبة من "مخبرين"، والحارس المحترف يجلس في وقار، لاسيما وأنهم في مكان مؤمن، وليسوا في ميدان التحرير كما الرئيس محمد مرسي عندما أقلق حراسه وهو يلقي خطابه التاريخي أمام الثوار عقب إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية.
ظهر محلب وبجانبه شاب، ظننت أنه ابنه، لكني تذكرت انه بروتوكولياً، لا يجوز له أن يجلس بجواره ولو كان ابن الرئيس، لكن حركات عينيه أوقفتني علي طبيعة عمله، ومثله كثر، وبعضهم يعلق شارات موحدة، ربما تشير للجهة التي يعملون بها!.
ودخل السيسي متكلفاً، والعيون سابحة في الملكوت، فلا توجد حدود للحراسة لكل فرد، فقد بدا كل فرد مسؤول عن حراسة المكان كله.
تغيرت هيئة السيسي في الجلوس أكثر من مرة، ولم يجلس الجلسة الوقورة التقليدية أبداً، أما رئيس الحكومة فقد بدا لي في تغير لجلسته وهو مجهد كما لو كان يعالج سكرات الموت!.
بدا لي أن الاختيار وقع علي هذا المسجد في اللحظات الأخيرة، فلم يكن هناك الاستعداد اللازم لاستقبال السيسي، والدليل أنه قبل حضوره جاء من يحضر معطراً ويرش به المكان الذي سيجلس فيه.
والسؤال: لماذا يسيطر الهاجس الأمني علي السيسي؟.. ولماذا يخاف حد الهلع؟!
والجواب: لأن من قتل لا يشعر بالأمان أبداً.. ولأن من خان يخشي الخيانة ويؤمن أنه سيلدغ حتماً من مأمنه.. لذا فلا "مأمن له".
سنة الله في الذين خلوا من قبل