رابعة، لو لم تكن
مذبحة العصر الحديث في
مصر، لما ارتعدت السلطة الانقلابية بكل مكوناتها وأجهزتها وأسلحتها وروافدها وشبكتها العميقة من مجرد رفع شارتها الرمزية الصفراء في أي مكان، وبأي صورة، ولو كانت في صورة دبّوس على حجاب فتاة أو كانت مطبوعة على مسطرة تلميذ ، فتصدر من أجلها القوانين وتفتح لها النيابات ويتحرك من أجلها الجند ،وما ينطبق على سلطة الانقلاب ينطبق بالضرورة على جمهوره ومؤيديه ومفوضي قائده بالقتل بذات الدرجة، فقد حرص قائد الانقلاب منذ اليوم الأول على أن يشاركه الجميع فيما يفعل حتى يكونون جميعا في الجرم سواء، ولهذا يريدون جميعا نسيان الجريمة ومسحها من الذاكرة، ولو بارتكاب جرائم أخرى في سبيل ذلك الهدف المستحيل، لأنها جريمة لا تنسى ولن تنسى، حتى بعد القصاص ومحاكمة القتلة، وتحقيق الحلم الذي من أجله دفع شهدائها أغلى ما يملكون ،من أجل الحق والعدل والكرامة والإرادة والحفاظ على الحق في تقرير المصير.
ورابعة ليست مجرد مذبحة يجادل الحمقى فيها حول عدد القتلى، وكأن مشاعر الإنسانية لديهم مقيدة بالعدد سواء إن كان كبيرا أو صغيرا، فلا يدركون أن الله تعالى جعل قتل النفس الواحدة كقتل الناس جميعا، بل كانت اختبارا للإنسان الحي في مصر والعالم، وكاشفة عن المعادن والضمائر والنفوس، وفاضحة للأقنعة المزيفة، واللحى المصطنعة، والتقوى الباطلة ،لأنها لم تكن مذبحة سلطة انقلابية غاشمة فقط، بل كانت مذبحة مجتمع في المقام الأول، ذلك المجتمع الذي من أجله تم الانقلاب لمنع الحرب الأهلية ،على حد زعم الانقلابيين وأبواقهم الإعلامية، ليسمح للانقلابيين بحرب شبه أهلية لتثبيت أركان الانقلاب وإقامة قواعده وتنفيذ خارطة طريقه الباطلة.
وإن كنا قد صدمنا من موقف بعض المصريين تجاه العدوان الصهيوني على غزة وأهلها واكتشفنا أن فيروس التصهين قد حل في وجدانهم الوطني والعروبي والديني، فإن تلك الصدمة تزول عندما تحل الذكرى الأولى للمذبحة التي شهدت على وجود فيروس العنصرية في نسيج المجتمع المصري، فالسلطة الانقلابية لم تقدم جديدا في ارتكابها لمذبحة كانت متوقعة، وسبق لها الفتك بغير شهداء المذبحة في حوادث سابقة عليها، في الحرس الجمهوري والمنصة، كما أن هذه الحكومة الانقلابية وإن كانت أكثر قسوة وبشاعة من غيرها إلا أنها لم تكن بدعا من الحكومات العسكرية المتعاقبة، وكل الذي اختلف أنها سلطة انقلابية وجدت في عصر المعلومات والفضاءات المفتوحة التي لا تقبل التحكم والسيطرة بطبيعتها، فجعلت من جرائمهم مادة حيّة ومصّورة، كما أن تلك الحكومة الانقلابية جاءت بعد ثورة وعي شعبية حقيقية في الخامس والعشرين من يناير كسرت حاجز الخوف للأبد، ولكن جانب من المجتمع المصري هو الذي جاء بالجديد في تلك المذبحة، وجديدة كان العنصرية.
تلك العنصرية هي التي جعلتهم تربة خصبة لوسائل إعلام ملوثة بالتمويل الحرام، ونخبة مزيفة تستثمر في بعضهم الجهل، لتصور لهم ولأول مرة ،أن مصر بات فيها "عرق"جديد، يستحق الاستئصال والذبح، لأنه الخطر الأكبر على الأمن القومي للبلاد، وذلك العرق اسمه "الإخوان المسلمين " الذي يتكون من جيرانهم وأقربائهم ومعارفهم وربما من أشقائهم أيضا، رغم أن رواد رابعة وأخواتها لم يكونون جميعا من ذلك العرق المزعوم، الذي أحتل البلاد عبر انتخابات حرة ونزيهة لم تشهدها البلاد من قبل ولم تشهدها من بعد الانقلاب، ولهذا بدؤوا قبل الانقلاب بكثير بترويج لفظة شديد البذاءة عندما تطلق على إنسان، وهي لفظة "الخرفان " لتكون متسقة مع النحر الأكبر الذي تم في مثل هذا اليوم على مرأى ومسمع ومباركة من ذلك القطاع المجتمعي الذي قابل الجريمة بالرقص والغناء ،وتسلم الأيادي.
ولهذا فان رابعة وأخواتها ليست مجرد مذبحة سلطة انقلابية غاشمة تستحق الكفاح المشروع للقصاص لشهدائها من مجرميها، بل مذبحة مجتمع كامل ظل طوال عقود يردد على نفسه أنه "مجتمع متدين بطبعه "مع اختلاف مضمون ذلك التدين عند كل فرد من أفراده على حدا .