لم يحدث في تاريخ
العراق أن اتفق العراقيون على أمر كما اتفقوا على رحيل رئيس الوزراء العراق نوري
المالكي، فالسنة والأكراد و أبناء طائفته من الشيعة، بالإضافة إلى
إيران -القوة المؤثرة في المنطقة- والولايات المتحدة، ودول الجوار، جميعهم طالبوا واتفقوا على رحيله.
المالكي كان أمام خيار وحيد، وهو يرى جيشه يفر مهزوما من ساحة المعركة لصالح تنظيم الدولة الإسلامية، أن يقدم استقالته ويرضى بصفقة ترك السلطة مقابل عدم المطاردة القانونية بوصفه من المتهمين بإنشاء فرق الموت الطائفية.
المالكي بقي حتى اللحظة الأخيرة ممسكا بالسلطة بأسنانه وأنيابه ومخالبه أيضا، لكن بوصفه في حزب يقوم على تنفيذ رؤية المرجعية الدينية في مدينة النجف، لم يتمكن من مقاومة تيار جارف من الرفض، حتى من المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، الذي أرسل له المالكي قبل أسبوع وفدا من حزب الدعوة.
وكان رد السيستاني على الوفد ردا مكتوبا، أنه يريد التغيير(...) لقد عبر عن رأيه كتابة، وهي المرة الأولى التي يقوم فيها المرجع الشيعي الأعلى بمثل هذا الأمر.
الرد المكتوب كان رصاصة الرحمة التي أطلقت على رأس المالكي، الذي كان شخصية مغمورة لدى مجيئه إلى السلطة عام 2006 بمساعدة الاحتلال الأميركي حينها.
وفي الوقت الذي كان المالكي يتمسك فيه بمنصبه، كان اللاعبون الأساسيون في العراق وخارجه يمضون قدما للبحث عن بديل له.
وتحول المالكي إلى شخصية مثيرة للشقاق والشفقة، إلى حد خشي معه البعض من أن يتسبب في صراع بين الشيعة أنفسهم، مما قد يؤدي إلى شرذمة البلاد أكثر.
وكان البديل مساعد المالكي السابق، حيدر
العبادي، وهو نائب رئيس مجلس النواب، وينتمي إلى حزب الدعوة، إثر توافق الأحزاب على أن هذه الشخصية المقلة في الظهور الإعلامي، تتماشى بشكل جيد مع قادة الأكراد، وتحظى بفرصة كبيرة لإرضاء المسلمين السنة الذين دفعهم اشمئزازهم من تصرفات المالكي الإقصائية والطائفية إلى الانضمام إلى مقاتلي "الدولة الإسلامية".
رأت إيران، وهي الحليف الداعم له، أن الوقت قد حان للابتعاد عنه والبدء بالبحث عن بديل.
وأجرى الإيرانيون والأميركيون محادثات حول المرشحين المحتملين لخلافة المالكي، وبعد ثلاث جولات من المحادثات على الأقل اتفقوا على العبادي، ووافقت إيران على إقناع الجماعات الشيعية بدعمه، وشارك في هذه الجهود عدد من أئمة النجف، كما ساهموا في حشد الدعم للعبادي.
وهو ما نفاه مسؤول أميركي، مؤكدا أن واشنطن لم تدفع باتجاه العبادي إلى مقاليد السلطة، وقال إن اسمه طرح عبر القنوات السياسية العراقية.
ومن وراء الستار استخدم السيستاني نفوذه لدفع السياسيين الشيعة للتخلي عن المالكي، وقال أحد أفراد الائتلاف الوطني: "لقد وضعنا مسودة القرار ووقعنا عليها ثم سلمناها للرئيس فؤاد معصوم الذي كلف العبادي بتشكيل
الحكومة على الفور".
وبدا العبادي خيارا ملائما لرجال الدين وغيرهم من قادة الكتل والأحزاب، لأن المهندس العراقي لم يكن حافزه الوحيد الطموح السياسي، إذ أمضى أكثر من عقدين في المنفى عاملا في مجال الأعمال في بريطانيا، بينما كان يروج للتعاليم الإسلامية لحزب الدعوة.
وعاد العبادي إلى العراق بعد الاحتلال الأميركي، وانتهى به الأمر كمستشار للمالكي.
ورغم قربه من المالكي لكن العبادي لم يكن تابعا له، و لم يكن ضمن دائرة المقربين من المالكي، وبالتالي فإن اختياره لن يقصي التيار الشيعي الرئيسي وفي الوقت نفسه لن يعطي المالكي فرصة ليحكم من وراء الستار.
حيدر جواد العبادي، المولود في بغداد عام 1952، عاش في أسرة في منطقة الكرادة الشرقية عرفت بالتجارة ومحلات العطارة، ونال البكالوريوس من الجامعة التكنولوجية قسم الهندسة الكهربائية ببغداد عام 1975.
هاجر من العراق بداية السبعينات لإكمال دراسته في بريطانيا، وحصل على الماجستير عام 1977، ثم الدكتوراه عام 1980 من جامعة مانشستر البريطانية، في تخصص الهندسة الكهربائية، وبقي في لندن منذ ذلك الحين، حتى عام 2003 بعد الغزو الأميركي.
أصدر كراسا يشرح فيه مسيرته مع حزب الدعوة الإسلامية، ضمن حملته للدعاية الانتخابية الحزبية، ذكر فيه أنه انتمى إلى حزب الدعوة عام 1967، وكان عمره آنذاك خمسة عشر عاما، واختير مسؤولا لتنظيمات الحزب في بريطانيا عام 1977.
وفي عام 1980 اختير مسؤولا لمكتب الشرق الأوسط للحزب، الذي كان مقره في بيروت، لكنه بقى يدير المكتب من لندن، ما ولد إشكالات داخل الحزب أدت إلى استبداله.
سمى حزب الدعوة العبادي متحدثا باسمه، لكنه لم يكن يظهر عبر وسائل الإعلام إلا قليلا، تقلد منصب وزير الاتصالات في الحكومة الانتقالية التي ترأسها إياد علاوي، ثم نائب في البرلمان عام 2005 وحتى الآن.
طرح اسمه سابقا كأحد أبرز مرشحي "الدعوة" لرئاسة الوزراء عام 2006، أثناء عملية استبدال إبراهيم الجعفري، وعاد ليطرح اسمه من جديد وسط مفاوضات تشكيل الحكومة عام 2010، وفي المرة الثالثة في آب/ أغسطس الحالي كلفه التحالف الوطني ورئيس الجمهورية فؤاد معصوم بتشكيل الحكومة.
ونجح في الظفر بالمنصب وسط أصوات تتعالى محذرة من تقسيم العراق، ومن موجات هجرة سكانية دينية وعرقية ومذهبية نتيجة لنحو ثماني سنوات عجاف من حكم المالكي، ومن مخاوف بدت حقيقة قد يسببها تنظيم"الدولة الإسلامية" في اتساع رقعة الشحن الطائفي في بلاد تموج بالصراعات السياسية والمسلحة.
بانتظار العبادي ملفات شائكة ومعقدة، تعقدت أكثر تحت إدارة المالكي، من بينها تفكيك الاحتقان الأمني والسياسي في البلاد، وإعادة "السنة "على ملعب الدولة العراقية التي ضاعت ملامحها، وأن لا يقع في "الفخ" وحقل الألغام الذي قد ينصبه له المالكي.
والأخطر من كل ذلك أن لا يقع تحت ضغط أن إيران والمرجعية هي التي جاءت به، وأن يخرج من جلباب حزب الدعوة، الحزب الذي شكل الظهير والسند والمدافع عن جميع سياسات المالكي الكريهة.