إحدى أهم المعضلات المعرفية في تونس هي تحديد طبيعة
الطبقة المتنفذة ماليا وسياسيا في تونس (ويمكن المقارنة بكثير من البلدان العربية غير النفطية) منذ الاستقلال السياسي. فهذه الجماعة تظهر في قوتها وغطرستها كما لو أنها طبقة واعية بوجودها وقادرة على إنجاز مشروع تحديث اجتماعي وسياسي وثقافي أي قيادة عملية بناء مجتمعي مماثلة لمنجز الطبقة
البرجوازية الأوربية التي قادت مشروع التحديث عبر ثورة صناعية عضدتها بمشروع ثقافي وعلمي ما يزال يقود العالم؟
تتناول هذه المعضلة بالتحليل يمر حتما عبر قراءة تشكلها التاريخي والمحطات البنائية الفاصلة في هذا المسار وهو عمل طويل النفس لا يسمح به المقام لكن يمكن تبين بعض هذه الملامح بعجالة.
نهاية الموروث الارستقراطي وظهور طبقة جديدة
الفئة الحضرية المتنفذة اقتصاديا زمن الاستعمار المباشر كانت ورثت وتموقعت بالعقار الزراعي والعمراني والنشاط التجاري عبر نظام تبادل مع ما وراء الأسوار أي مع الريف فلما أخضعت تلاشت إلا في حدود ضيقة (تجارة الذهب والمشغولات وبعض العقار الزراعي) وقد اتجهت تجربة البناء الاقتصادي الأولى (الستينات) إلى بناء اقتصاد دولتي فلم تبرز قوة اقتصادية برجوازية إلا بعد التحول نحو الليبرالية في أول السبعينات وكان للدولة دور مركزي في بعث هذه الطبقة عبر تسهيلات متنوعة مالية وقانونية وعقارية كمنح الأراضي في المناطق الصناعية مع الإقراض البنكي الميسر ومع تسهيلات في التشغيل مع دعم كامل للصناعات التصديرية خاصة في النسيج (ضمن شبكة متعددة الألياف و كوتا أوربية للمنسوج التونسي). وخلقت من العدم طبقة مستثمرين في القطاع السياحي (دور الوكالة العقارية السياحية) وطبعا ضمن خريطة صناعية موجهة لتسهيل التصدير والاستقبال ولو على حساب التنمية الجهوية.
هذه الطبقة اكتسبت ملامحها ووجودها ثم دورها من الدولة نفسها فهي صناعتها بذريعة تطوير سوق التشغيل ومعالجة البطالة التي كانت آخذة في التفاقم تحت مسمى تكامل القطاعات الاقتصادية. لقد أفلحت الدولة في صناعة برجوازيتها لكن هل تملكت هذه الطبقة المصطنعة
طبيعة برجوازية؟
برجوازية بلا مشروع ثقافي
المقارنة تفرض نفسها بين برجوازية اصطنعتها الدولة وبين برجوازية أقامت الدولة وأعطتها مشروعها رغم اختلاف السياقات إلا أن الإمكان ظل قائما أي ينتظر من برجوازية محلية رغم التبعية للخارج مشروعا وطنيا للتحديث. لكن لن نعثر في ما عاينا على إنتاج ثقافي وأدبي وعلمي دعمته مولته هذه الفئات المتنفذة اقتصاديا (إلا حالة مغن صفاقسي مع شركة صفاقسية) طبقة لا تفكر ولا تتذوق ولا تبدع ولا تمول ولا ترعى هذه هي السمة الغالبة لنشاطها غير الربحي وهي إلى ذلك لا تمول البحث العلمي ولا تتبني باحثين في العلوم التقنية المفيدة بل لا نسجل لها دعما للتعليم العمومي الذي تأخذ منه تقنييها وعمالها المهرة جاهزين بالمال العام.
ولذلك اتجهت ذائقتها الفنية أيضا إلى استهلاك منتج غربي في مجمله وروجته على أنه مشروعها الخاص تحت مسميات التحديث والعصرنة ومقاومة التدين المتخلف القروسطي (بدأ من الملبس إلى المطبخ إلى شكل البيت و مختلف أشكال المتعة الحسية المغلفة غلافا ثقافيا).
وفي غياب دور البرجوازية الراعي للثقافة حولت الدولة الثقافي إلى قطاع عام تدعمه (وتراقبه وتبتزه) بأشكال مختلفة فنمت على هذه الممارسة شريحة برجوازية ثقافية تغنم الدعم في السينما والمسرح والغناء لكنها لم تتحول إلى فاعل مستقل منتج لمشروع مهما كان حجمه. هي طبقة تتاجر بالثقافي الجاهز ولا تنتجه. بما حول الدولة نفسها إلى ضرع مدرار في كل المجالات غنمت منه هذه الطبقة أحسن ما فيه. فموقعها المالي مكنها من الموقع السياسي الذي صار سلمها للمزيد من الثروة المادية والتردي السياسي والثقافي(لا نحتاج لقراءة المنفاستو لفهم ذلك).
الموقع الزئبقي لبرجوازي انتهازي
يؤدي هذا إلى طرح السؤال عن احتمالات التحول والتطور في الموقف السياسي لهذه الشريحة الواسعة.
إن موقف البرجوازية التونسية السياسي يكشف فقرها الفكري أيضا ويعري انتهازيتها ففي مرحلة نشأة هذه الطبقة كان هناك حزب واحد ضم المتنفذين السياسيين فيه ومولهم ليصنع منهم طبقته الغنية. الولاء السياسي للزعيم بورقيبة والحزب كان شرطا أساسيا للترقي الاجتماعي.
لذلك واصلت هذه الطبقة الالتفاف حول الحزب وتمويله والاعتماد عليه وتحسين المكانة الاقتصادية وفي السوق. كان هناك تبادل كامل للأدوار بين الموقع السياسي وبين الغنيمة الاقتصادية بما أنتج ناد مغلق حول الأغنياء والوزراء وخاصة بمنطقة الساحل وكانت صفاقس تشكل بعض الاستثناء بالنظر للغيرة الاقتصادية بينها وبين منطقة الساحل التي انعكست في ضعف المشاركة السياسية لرأس المال الصفا قسي في السلطة(قضية منصور معلى والبنك العربي لتونس).طيلة مرحلتي دولة الاستقلال قبل الثورة اشتغل الولاء السياسي وتوسع لأشخاص جدد وأقصى منه أشخاص خاصة مع استشراء الفساد والمحسوبية والزبونية مع العائلة الفاسدة. وتحولت صفقات القطاع العام إلى رشى سياسية لطبقة محددة . زاد عدد أعضاء نادي الأثرياء بحسب القدرة على تمويل العصابة الحاكمة (عبر كذبة تمويل الاجتماعي بصندوق للتضامن الوطني تبين انه اكبر كذبة شارك فيه بعض الأثرياء ضد مجتمع المفقرين)
في نفس الوقت كان المشروع العلمي والثقافي يختفي نهائيا من أجندة هذه الطبقة و تلاشي البحث في التراث وإحيائه ازدهر فن هابط باسم الشعبية وازدهرت سينما منعزلة في قضايا نخبوية وحتى بالنسبة للفن الحديث من رسم ونحت فان الدولة هي المقتني الأول للمنتجات فبرجوازية التجمع لا تفهم في الفن الحديث فضلا عن فن ما بعد الحداثة. وتعيش هذه الطبقة باحتقار كامل للفن والعلوم الإنسانية والفلسفة وتسخر من كل متفلسف وتعطي أهمية كبيرة للعلوم النفعية التي تحول أولادهم إلى موظفين كبار فقط.
أين هم ذاهبون الآن؟
إلى حيث تزدهر أموالهم أكثر لذلك لا يبدون مستعجلين على التشكل السياسي كحزب يميني يدافع عن مصالح طبقة برجوازية بل يتربصون بالغالب ليكونوا معه ومهما كان هذا الغالب يساريا ملحدا أو إسلاميا متعبدا فان الولاء له يمر عبر تبادل مصالح على طريقة دعه يستغني سيساعدك ماليا. وشبكة الأحزاب الفقيرة مستعدة دوما لبيع ذمتها لرجل غني بلا ذمة بما يجعلنا إمام خيار إعادة إنتاج النظام المالي والسياسي الفاسد الذي قامت عليه الثورة. لقد افلحوا في التوافق على عدم إقامة مؤتمر لمنظمة الأعراف يكشف احتمالات صراع بينهم أو ميولات تجديد سياسي فغطت الاتفاقات التحتية كل الخلافات لتعود منظمة المال الفاسد للعب الدور السياسي الأول في مرحلة الحوار المفروض من الخارج وفازت بكل صفقات المال والتهدئة السياسية والتي لا نشك في أن ثمنها قد دفع في النزل الفخمة.
لم تنتج دولة الاستقلال برجوازيتها الوطنية فلم تنتج برجوازيتها التابعة مشروعا ثقافيا وعلميا جديرا بالتقدير ولذلك فإن البرجوازي التونسي يظل متواكلا على المال العام مثله مثل أي عاطل عن العمل ينتظر معتقدا أن الدولة وحدها تصنع كل شيء. ولا يبدو مشغولا بأي مهمة وطنية غير تخمته الخاصة.