صورة لمدينة أوروبية هادئة، تصطف في شوارعها الورود المُلّونة، والعصافير التي لا تخاف البشر، تمر في مخيّلة الفلسطيني شكري العسولي، وهو يؤسس في عقله وطنا له ولطفليّه وزوجته، بعيدا عن حياته في قطاع
غزة.
ويسير المركب الذي يقل العسولي ونحو 400 من المهاجرين، في البحر، وما أن يقترب من حدود المياه الإقليمية المالطيّة، حتى تكبر أمنياته، ويحتضن طفليّه (يامن ثمانية أشهر)، وريتاج (أربعة أعوام) بقوة، ويبتسم لزوجته (هيام)، ويهمس لهم بحب بأنّهم قريبا سينعمون بمدينة لا تعرف هموم الحروب ولا السياسة ولا أوجاع أي تفاصيل أخرى.
وفجأة يرتفع صراخ المهاجرين، فالقارب الذي يقلّهم يتعرض للغرق، في حدود المياه الإقليمية المالطية على بعد 120 ميل بحري من الشواطئ الإيطالية بعد أن كانت انطلقت من شواطئ الإسكندرية شمالي مصر بترتيبات من أحد المهربين.
يتشبث العسولي، بطفله يامن، فيما تُمسك الأم بصغيرتها ريتاج، غير أن الموت الذي هربوا منه برا، حاصرهم بحرا، وتدفقت أجساد المهاجرين على موج البحر ما بين أحياء أصابهم المرض والإعياء، وما بين موتى ومفقودين.
وبدلا من أن ينعم العسولي بحياة هانئة، بعيدا عن حصار قطاع غزة، وقسوة المعيشة السياسية والإنسانية يرقد الآن على سرير غريب في اليونان، يتعافى من مرضه وصدمته بفقد زوجته وطفليّه.
وقالت السفارة الفلسطينية في اليونان، في بيان، إن سفينة المهاجرين التي كانت تقل أكثر من 400 شخص أغلبهم فلسطينيون من سكان قطاع غزة، تعرضت للإغراق عمدًا مساء الأربعاء الماضي، في إطار ما وصفته بتنافس عصابات الموت والمهربين.
وأشارت السفارة إلى أن النجدة وصلت للسفينة من إيطاليا ومالطا صباح السبت الماضي، ما يعني أنهم مكثوا في المياه نحو ثلاثة أيام، إذ وصلت سفينه يونانية تجارية وأنقذت عددا من الأحياء يمكثون الآن في خانيا بجزيرة كريت.
وتبدو الآن
أوروبا في نظر العسولي، صحراء قاحلة، لا مساحة للحلم فيها، وتتشابه بعد فقده لأسرته مع كل المدن البائسة.
وينقل رامي عبده، رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، عن العسولي قوله، إنّه ظل في مياه البحر ثلاثة أيام إلى أن تم إنقاذه.
وأضاف: "العسولي فقد زوجته، وطفليه، والآن يعيش صدمة الوجع، وألم الفراق، لقد فر من غزة المحاصرة، والمعاناة التي تزداد قسوة يوما بعد آخر، ليواجه موت
الهجرة".
ووصف، عبده حادثة غرق المركب بأنها الأكثر بشاعة، في السنوات الأخيرة، مؤكدا أن العسولي واحد من عشرات الفلسطينيين الذين يتعرضون لابتزاز من وصفهم بـ"تجار الموت".
وتابع:" نحن نتحدث عن حادثتين في أقل من أسبوع، لقد باتت الهجرة بالنسبة لكثيرين تجارة موت، وعلى المسؤولين في قطاع غزة، وكافة الجهات المعنية أن تتصدى للهجرة غير الشرعية، فمن غير المقبول أن نسمع في كل مرة عن غرق العشرات من الفلسطينيين، وموتهم وفقدهم في البحر".
وأعلنت منظمة الهجرة الدولية، أمس الأول أن نحو 400 شخص، بينهم عشرات الفلسطينيين، من الساعين إلى الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا اعتبروا في عداد المفقودين بعد قيام المهربين بإغراق السفينة التي كانت تقلهم.
ووفق عبده، فإن العشرات من قطاع غزة، لا يزالون في عداد المفقودين، وتم العثور على 8 ناجين فقط.
وتحاول جهات فلسطينية رسميّة، وحقوقية، معرفة مصير المفقودين، والتصدي لمحاولات التغرير بهم من قبل المهربين.
وسبق هذه الحادثة، مقتل 15 فلسطينياً، من قطاع غزة، لقوا مصرعهم، مساء السبت الماضي، فيما تم إنقاذ 72 آخرين، إثر غرق قارب كان يقلهم، قبالة شاطئ "العجمي"، بمدينة الإسكندرية الساحلية بمصر، في طريقهم إلى إيطاليا.
ونقلاً عن مصادر مطلعة، للأناضول، فإن عشرات المواطنين الفلسطينيين غادروا قطاع غزة مؤخرا عبر الأنفاق الحدودية إلى مصر، بعد أن حصلوا على وعود بـ”الهجرة” إلى الدول الأوروبية عبر البحر.
وأكد بعض الفارين من غزة أن كلفة الوصول إلى أوروبا تبلغ نحو 5 آلاف دولار أمريكي، للشخص الواحد، موزعة على تكاليف السفر والدخول إلى مصر، ثم الانتقال عبر المركب للتوجه إلى إيطاليا، والانتقال منها إلى دول أوروبية كالنرويج أو السويد أو بلجيكا، حيث يطلبون اللجوء.
ولا توجد إحصائيات رسمية، بأعداد من هاجروا من قطاع غزة إلى دول أوروبا، ورفضت وزارة الداخلية، والجهات الأمنية بغزة، التعقيب على ظاهرة الهجرة، أو الاتهامات بأن من قام بتسهيل مهام عدد من الفارين، بعض التجار المحسوبين على فصائل فلسطينية، وجهات أمنية.
واكتفى مسؤول رفض الكشف عن اسمه بالإشارة إلى أن الأجهزة الأمنية، ستتصدى لكل محاولات الهجرة، والتغرير بالشباب وفق قوله، مؤكدا أن الداخلية في الأيام المقبلة ستنشر تفاصيل كاملة عن هذه الظاهرة.
وكانت وزارة الداخلية في قطاع غزة وعلى لسان المتحدث الرسمي باسمها" إياد البزم"، أشارت مؤخرا إلى اعتقال عدد من المهربين وممن يساعدوا الشباب على التهريب عبر الأنفاق ومن ثم عبر البحر.
وتنقل إحدى العائلات بغزة، عن ابنها الذي توفي غرقا أثناء تهريبه إلى إيطاليا، ورفضت الكشف عن هويتها، أن تجارا للموت هم السبب في مقتل ابنها وغيره من المفقودين.
وتروي العائلة، عن أن صديق لابنها (25) عاما وصل بسلام قبل شهر إلى إيطاليا، وقام بالتنسيق لسفره، عبر قارب يحمل على متنه 60 شخصا.
ويتحول القارب الذي يحمل 60 شخصا، إلى كتلة ثقيلة تحمل المئات، ما يتسبب بغرق القارب، وفقدان من على متنه.
ويصل الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، لشهادات وثقها هاربون على شبكات الإنترنت، فإن قوارب من المهربين تعترض مراكب أخرى، وتقوم بإغراقها بسبب ما وصفوه "مافيا التهريب".
ويرى طلال عوكل، الكاتب السياسي في صحيفة "الأيام" الفلسطينية الصادرة من رام الله، وسط الضفة الغربية، أن هذه الظاهرة، التي وصفها بالنزيف، يجب أن تتوقف وفورا.
وأضاف عوكل، إنّ الحرب
الإسرائيلية لم تكن هي السبب الوحيد، في بث هذه الصور المؤلمة، والبشعة.
وأضاف: "الفلسطينيون في قطاع غزة، صمدوا، خلال 51 يوما من القتل، والتدمير، وكانوا رائعين بثباتهم وصبرهم، وبعد الحرب انتظروا خطابا سياسيا، يكافئ ما بذلوه من دم، ووجع، لكن للأسف بدأت حركتا فتح وحماس في تبادل الاتهام، وكل شيء عاد للوراء، بل أسوأ مما كان".
ومنذ انتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 26 أغسطس/آب الماضي، تسود حالة من التوتر في العلاقات بين حماس وفتح، حيث تتبادل الحركتان الاتهامات حول جملة من القضايا.
ومن أبرز قضايا الخلاف بين الحركتين اللتين تعتبران أكبر فصيلين في فلسطين، عدم دفع رواتب موظفي حكومة حماس السابقة في غزة، وهو ما تبرره حكومة التوافق بـ"تحذيرات تلقتها من كل دول العالم بعدم دفع أية أموال لهؤلاء الموظفين، إلى جانب فرض إقامات جبرية على كوادر حركة فتح في غزة وهو ما تنفيه حماس.
وشدد عوكل، على أن كافة الفصائل الفلسطينية، وفي مقدمتها حركتي فتح وحماس، جنبا إلى جنب مع حكومة التوافق مطالبين بالعمل الجاد والسريع، من أجل وقف هذه الظاهرة، وإزالة الإحباط الذي تدفع أهالي قطاع غزة، إلى الخلاص الفردي، والهروب من الموت إلى موت آخر.
وشنت إسرائيل في السابع من يوليو/تموز الماضي حرباً على قطاع غزة، استمرت 51 يوماً، وتسببت في استشهاد 2157 فلسطينياً، وإصابة أكثر من 11 ألفاً آخرين، بحسب مصادر طبية فلسطينية، فضلاً عن تدمير 9 آلاف منزل بشكل كامل، و8 آلاف منزل بشكل جزئي، وفق إحصائيات لوزارة الأشغال العامة والإسكان الفلسطينية.
ورفعت الحرب الإسرائيلية الأخيرة، عدد العاطلين عن العمل في قطاع غزة إلى قرابة 200 ألف عامل، يعيلون نحو 900 ألف نسمة، بحسب اتحاد العمال في القطاع.
وتوصل الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي، يوم 26 أغسطس/ آب الماضي، إلى هدنة طويلة الأمد، برعاية مصرية، تنص على وقف إطلاق النار، وفتح المعابر التجارية مع غزة، بشكل متزامن، مع مناقشة بقية المسائل الخلافية خلال شهر من الاتفاق، ومن أبرزها تبادل الأسرى إعادة العمل إلى ميناء ومطار غزة.
وبعد مرور نحو ثلاثة أسابيع من اتفاق وقف إطلاق النار، يقول مسؤولون فلسطينيون إن إجراءات رفع الحصار عن غزة، لم تبدأ، وإن الحركة التجارية على المعابر لم تشهد أي تغيير.