ظاهرة ليست بجديدة، لكن انتشار وسائل التواصل الإعلامي وسهولة أدوات الإعلام الجديد أدت إلى بروزها وانتشارها، فالتطور الهائل في تلك الوسائل كسر جدرانا كانت تحجب المعلومات ووفر منصات لإبداء الآراء ومناقشتها، لم تكن متاحة في السابق.
لم تكن الحركة الإسلامية بمعزل فهي تعيش في هذا العالم تؤثر وتتأثر به، وكان من الطبيعي أن ينهمك شباب الحركة الإسلامية ومحبوها ومناهضوها أيضا في مناقشة قضاياها وقراراتها واستراتيجيتها وفكرها وإيجابياتها وسلبياتها ونجاحاتها وإخفاقاتها.
قبول هذا الأمر لم يكن سهلا على بعض منتسبي الجماعات الإسلامية خصوصا ممن اعتادوا على نمط معين من العمل لا يتيح النقاش والحوار في الجو المفتوح، كما تربوا على ثقافة ترفض
النقد العلني – وربما غير العلني أيضا - وتعتبره عيبا (ونشرا للغسيل الوسخ في الشارع)، وهو من القوادح في شخصية المسلم الملتزم الذي ارتضى أن يعمل في جماعة دعوية.
وفي تفسيرنا لأسباب هذا الموقف الرافض لثقافة النقد في الجو المفتوح نذكر خمسة أسباب رئيسية أدت إليه:
1) الحساسية من النقد بشكل عام فهناك من يرى – وإن لم يصرح – أن الحركة الدعوية التي ينتمي إليها تمثل الإسلام نفسه .. فهي الأمل لإعادة إحيائه في النفوس وهي حائط الصد ضد المؤامرات التي تحاك ضده وهي السبيل لإعادة الخلافة المفقودة .. لذلك فهي حركة طاهرة مباركة تستمد قدسيتها من قدسية الإسلام، فمن أحبها أحب الإسلام ومن عاداها فهو يعادي الإسلام نفسه، تماما كما ينظر كثير من خريجي المعاهد الشرعية لأنفسهم من موقع الأستاذية باعتبارهم (الموقّعين عن رب العالمين)، فكيف للتلميذ أن ينتقد أستاذه المعلم؟
2) الخلط بين مفهومي نصح الأفراد في أمورهم الخاصة والأصل فيه أن يكون سرا وهو خلق كريم، وبين نصح المؤسسات والشخصيات العامة في قرارتهم التي يتأثر بها خلق كثيرون، بل قد يؤدي الخطأ فيها إلى كوارث تصيب الأمة وتزهق فيها الأرواح، فهذه مكانها الفضاء المفتوح لأنها شأن عام يهم الجميع وهي ليست ملكا لقائد معين أو جماعة بعينها بل ملك للأمة وجزء من خبرتها وتاريخها. هذا الخلط هو نتيجة انتشار مفهوم ساد في أمتنا عبر قرون - منذ حدوث الخلل في الحكم وتحويله من شورى بين المسلمين إلى حكم وراثي - وهو أن النصح للحاكم لا يكون إلا سرا، وهو مفهوم يخالف سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، والشواهد على ذلك كثيرة بل إن بيعة العقبة التي قامت على أساسها دولة الإسلام الأولى ضمت بين بنودها العهد بقول الحق دون خوف لومة لائم، هذا المفهوم الخاطئ موجود في التراث وفي خلفيته الثقافية ويتم استصحابه على حالة الجماعات الإسلامية بالإصرار على رفض النصح العلني.
3) الخوف على الحركة الإسلامية من تربص أعدائها واستغلال نقاط ضعفها، وهم يرون أبناءها ومحبيها يناقشون قضاياها الداخلية وينتقدون أخطاءها وكأنها عورة يخافون كشفها، ونحن نقول: هل منعت نقاشات الغرف المغلقة المؤامرات على الحركة الإسلامية؟ هل وضع الحركة الإسلامية وهي تعمل منذ عشرات السنين بأسلوب (السمع والطاعة) والحشد والتجييش وضع مكتمل الأركان؟ يرد د.عبد الله النفيسي الخبير المستقل في شؤون الجماعات الإسلامية في كتابه الحركة الإسلامية ثغرات في الطريق ردا قويا على أصحاب هذا الرأي فيقول: (والقول بأن مناقشة قضايا الحركة الإسلامية في وسائل الإعلام كفيل بكشف ظهر الحركة الإسلامية لأعدائها برغم ما ذكر عن السيولة المعلوماتية في عصرنا، هو لاشك قول ساذج إلى أبعد الحدود، نحن فعلا نعيش عصر ثورة المعلومات والاتصال ولا يمكن لأية دولة أو حزب أو حركة تتعاطى في السياسة أو غيرها من مجالات النشاط الإنساني أن تفرض على نفسها طوقا من الظلام أو العزلة عن المحيط بها) وكلام النفيسي هذا في ثمانينيات القرن المنصرم أي قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بل قبل انتشار الانترنت بل والفضائيات أيضا.
4) سيادة العقل الأحادي الذي لا يرى إلا الأسود والأبيض، أو الحق والباطل، أو معي أو ضدي، وغياب العقل التعددي الذي يرى الصورة كاملة بما فيها من حسنات وسيئات ويفرق بين درجات الألوان كلها، ويزن الأمور بميزان الموضوعية فيضع لكل أمر وزنه الذي يليق به، ويعيش في حالة تنقية دائمة لأفكاره وقيمه. وأصحاب العقل الأحادي إن قرأوا نقدا ظنوه تشهيرا، وإن سمعوا رأيا معارضا اعتبروه فتنة، وهم بهذه الحالة لا يمكنهم تصور وجود شخص مختلف ناقد وفي نفس الوقت مخلص عامل، لأن الإخلاص في العمل يقتضي البعد عن هذه الفلسفات حسب وجهة نظرهم، وهذا خلل في الفكر.
5) اعتبار أن التحديات كبيرة وأن النقد والمراجعة والتقويم لا يكون في زمن المحن والابتلاءات، فلننتظر حتى تنجلي الغمة ثم ننتقد كما نشاء، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وقد يكون هذا الكلام صحيحا إن قصدوا به مرحلة معينة أو تحديا محددا، لكنها أصبحت حالة مزمنة مستمرة شهورا وسنين ولا ندري متى تنتهي ، وأصحاب هذا الرأي لا يدركون وظيفة النقد والمراجعة، ولا يفقهون حركة التاريخ، وهم يظنون أنه سيأتي عليهم زمان تنتهي فيه التحديات تلقائيا فيجلسون على الأريكة ليتحدثوا بأريحية حول أخطاء الماضي ويستخلصون العبر والدروس من تجربتهم!
إن التحديات لا تنتهي طالما استمرت عجلة الحياة وحركة التاريخ وفعل الإنسان، وتخطي التحديات لا يكون إلا بالرؤية النقدية والمراجعة ثم العمل على بصيرة، وإلا سيستمر التيه في حلقة مفرغة، كمن يطلق النار دون أن يحدد الهدف.
بسبب هذا الفهم استمرت الحركة الإسلامية تنتقل من ابتلاء إلى ابتلاء دون أن تحقق إنجازات تساوي تضحياتها لأنها لم تقف مع نفسها وقفة للمراجعة، يقول الشيخ محمد الغزالي في مذكراته (قصة حياة): (وقد أحزنني وأنا في الطور أن الإخوان عموما يرفضون أي اتهام لسياستهم، وقد قلت: إنه بعد هزيمة أحد وقع اللوم على البعض من الصحابة، فلماذا لا نفتش في مسالكنا الخاصة والعامة؟ فقد يكون بها ما يستدعي التغيير، وما يفرض تعديل الخطة، لكن هذا التفكير لم يلق ترحيبا) لذلك ليس بمستغرب أن تكرر حركة الإخوان المسلمين في مصر نفس أخطائها التي وقعت فيها في الخمسينات رغم أن الكثير من قياداتها عايشوا تلك الأحداث واكتووا بنارها.
لماذا نتكلم في العلن؟
لأن الحركة الإسلامية – رغم جراحها - كبرت وأينعت، ولم تعد تلك الحركة المحصورة في المساجد والجامعات، وقد أصبح لها مؤسساتها وكياناتها وحضورها المؤثر في الخرائط المحلية والدولية أيضا، وشأنها بالتالي شأن عام لا يخصها وحدها بل يخص الأمة كلها، وهي لم تعد ملكا لنفسها بل ملك الأمة وجزء من تراثها وشخصيتها، لذلك نرى تداول شؤونها وقراراتها دليل قوة لا ضعف، فالحركة ليست عورة يخشى كشفها ولا هي موجة عابرة تزول بأصغر سبب، بل هي حركة تقف شامخة بين الناس بعطائها ومواقفها، ومتجذرة في أصول المجتمع وواهم من يحلم باجتثاثها منه، ومن ينكر علينا الكلام العلني تغيب عنه هذه المعاني.
وقضايا الأمة والأوطان تحتاج الصراحة والمكاشفة والمحاسبة، ولا تحتمل مجاملات ولا جبر خواطر، وهي أكبر من مصلحة فئوية أو مشاعر هذا أو ذاك، هكذا يفكر من يضع مصلحة أمته فوق حزبه، فإذا كانت الحركة تعمل لمصلحة الأمة فحق الأمة عليها مناقشة قضاياها على الملأ وسماع الرأي والمشورة في كل ما يخصها، أما إذا كانت تسعى لمصالحها الخاصة فستذهب بالتأكيد الى الغرف المغلقة، ومن لا يرى ذلك فهو ينظر إلى جمهور الأمة باعتباره إما جاهل لا يستفاد منه أو عميل يخاف شره.
ولأن البشرية تتقدم والعالم يتطور، وعلينا الاستفادة من كل جهد بشري مفيد، وقد توصلت البشرية إلى أسلوب المكاشفة والشفافية في العمل، وكان هذا أحد أهم أسباب تقدمها، وأصبح أحد مقاييس قوة ونضوج أي مؤسسة عامة حزبية أو حكومية بل وحتى تجارية هو مدى شفافيتها وقدرتها على طرح مشاكلها أمام الملأ، وأصبح من مقتضيات التقييم العلمي السليم هو أن تقوم جهة مستقلة به، لذلك تلجأ الأحزاب الغربية لتعيين مدقق داخلي لتقييم عملها بحيادية، وتعقد ورش عمل وتدعو ضيوفا من خارجها للتقييم والنقد الذاتي وتأخذ بتوصياتهم، فالحوار في الجو المفتوح كاشف للعقول وشاحذ للفكر ويوفر حلولا خارج الصندوق، أما الحوار في الغرف المغلقة فهو دوران في نفس دائرة التفكير الحزبي النمطي وهو انعكاس لعقلية الحاكم المستبد الذي اعتاد على نشرة الأخبار الرسمية التي تعدد إنجازاته وتحفظ له هيبته، وحقيقة الأمر أنه خائف من محدودية قدرته وإنجازاته، وغالبا سنجد أن الأكثر خوفا من المكاشفة هو الأسوء أداء.
ومن المحزن أن نرى العالم كله – وعدونا الصهيوني بينهم - وهو يتجه إلى
الشفافية والمكاشفة في زمن تطور وسائل التواصل وثورة المعلومات وطرح مشاكله في الهواء الطلق بينما نجد من يصر على الوقوف في وجه تيار الانفتاح، ألا يدري أنه يدافع عن قضية خاسرة؟ ألا يرى واقع الدنيا وكيف يفرض نفسه؟ ألا يسأل نفسه إلى أين تتجه الدنيا: المزيد من الانفتاح أو الانغلاق؟
ولإن التفكير النقدي هو أعلى درجات التفكير الإنساني وهو علم وفن، ووجوده وممارسته ضرورة يمليها الواقع، والغريب في الأمر أنه في عصر المعلومات والإعلام التي أتاحت المجال لكل فرد أن يدلو بدلوه في القضايا العامة، ومنها القرارات الكبيرة التي تتخذها المؤسسات السياسية يريد البعض أن يحرم - من هذا الحق - أفراد هذه المؤسسة الذين يهمهم أمرها ويشاركونها الفكر والرؤية ويملكون المعلومات الدقيقة باعتبار أن ذلك يصب في خدمة العدو، وهذا من الخلل الفكري الذي يجعل الناقد في جبهة العدو، فصار صاحب الفكر والرأي مشلول الحركة لا يتمكن من البوح بنفثة صدره أو بقراءته التحليلية للتجارب التي يراها، وهذه معضلة كبرى: لماذا لا يذكر الأخطاء إلا المنشق أو المخالف؟ لماذا لا نرى محبا مواليا يتكلم برأيه في الجو المفتوح؟ هل هذا ما تعلمناه من القرآن الكريم والسنة النبوية؟ هل يعجبكم نموذج وعاظ السلاطين؟
ومن ينظر إلى برامج التكوين والتثقيف التي تنتهجها الحركات الإسلامية سيجد بوضوح غلبة التلقين والوعظ والمفاهيم التنظيمية، على حساب البرامج التي تنمي الفكر وتثير الوعي والروح النقدية، لذلك غلب العقل الإجرائي التنفيذي على العقل التأملي التساؤلي النقدي، وهذا قاتل للوعي وللعمل على بصيرة.
إن خدمة الأعداء ليست بانتشار ثقافة النقد والمصارحة وإنما بثقافة التبرير والتطبيل، فالأولى تعين على النهوض بعد الكبوات واستغلال الفرص الضائعة، والثانية تخدر العقول وتديم حالة الإنكار حتى يصل الفرد أو المؤسسة إلى لحظة الحقيقة بعد فوات الأوان فتحدث الانتكاسة، وقد قال لي أحد أساتذة التاريخ السياسي المخضرمين بأن (أكبر خطأ ارتكبته أمتنا الإسلامية في تاريخها هو تبرير الأخطاء)، علينا أن نعي ذلك جيدا، فما خسرته أمتنا عبر تاريخها من غياب ثقافة النقد هو أكبر بكثير مما خسرته على يد أعدائها، لذلك هي مستمرة في تقديم التضحيات والدماء وتكرار التجارب الفاشلة وتجرع نفس اللدغات من نفس الجحر مرة تلو مرة.
همسة أخيرة
لا يجب أن يكون نقد الحركات الإسلامية الفاعلة بابا من أبواب إظهار البطولة أو التشفي بخطأ قراراتها أو ادعاء الحكمة بل هو محاولة جادة للوقوف على مكامن الخلل والاستعداد لانطلاقة قوية جديدة تحقق نقلة نوعية في المسيرة الحضارية للأمة بعد أن عجزت هذه الحركات عن تحقيقها حتى الآن، ولولا أهمية هذه الحركات وترجي الخير منها لما سعى المخلصون لنصحها وتقييمها، لكن لا ينبغي إغفال دور قوى الاستبداد التي تسعى لاستغلال الثغرات والولوج منها تمهيدا لهدم البناء القائم.
وبالمقابل ليس كل رأي معارض فتنة ينبغي محاربتها .. وليس كل ناقد وراءه محرك أو مغرض .. بل الأصل هو تقبل النقد والرأي الآخر والبحث عن الجيد فيه بغض النظر عن قائله.
لذلك فالمسؤولية مشتركة وهي أمانة عظيمة ينبغي فيها الموازنة بين النقد الجاد والقوي والموضوعي وبين الحرص على المصلحة العامة فحتى هذه اللحظة لا يوجد للأمة حصن تحتمي به إن تهدمت هذه الحركات العاملة.
فإن لم تكونوا قادرين على بناء مشروع جديد فلا تهدموا البناء القائم .. واسعوا بكل قوتكم لاستكمال بناء مشروع إسلامي حضاري ينهض بهذه الأمة ويتجاوز نقد الحالات القائمة.