في سنة 1994 نظمت
تونس كاس أفريقيا للأمم وخسرت منذ الدور الأول أمام مالي ولكن الدعاية الرسمية خلدت لنا عبارة تحولت إلى نكتة ذات دلالة "لقد خسرنا الكأس لكننا نجحنا في التنظيم".
يتذكر الملاحظ النكتة أمام النتائج الانتخابية التي تتوارد في لحظة الكتابة عن تأخر صف الأحزاب المنتمية للثورة أمام كتلة النظام القديم المتلاحمة الصفوف. لقد نظمت الثورة انسحابها أمام النظام القديم الذي سيستلم منها ممتلكاته ويصفق للنجاح في التنظيم مكتفيا ربما من الغنيمة بالإياب وربما يدخل في مرحلة قادمة في محاولات مستميتة لإنقاذ جلده من مفرمة تعرف طعم لحمه.
ما الذي جرى بالضبط؟
الذهول لا يسمح بتبين المعطيات الكامنة. لكن من الواضح أن ماكينة الحزب القديم (التجمع) قد اشتغلت برأس واحدة تحت شعار التصويت الإيجابي و صبت بوسائلها وشبكاتها التحت أرضية لصالح حزب نداء تونس الذي يجد نفسه في وضعية تشكيل حكومة على هواه. وحصدت أصوات غير ذات تجانس اجتماعي فقد صوتت لها المدن الكبرى (مدن البرجوازية الصغيرة الحضرية) كما صوتت لها الأرياف فيما حسب خطأ على أنها قاعدة الريف المفقر الذي يصوت ضد فقره. يكثر الحديث عن المال السياسي وعن شراء الأصوات ولكن لن يستطيع أحد إثبات ذلك بحجة محكَّمة.
في مقابل آلة ذات عقل وبرنامج تحشيد وشبكات تواصل غير ظاهرة وشبكة هرسلة إعلامية لا ترعوي عن كل شيء. تقدم أنصار الثورة أو الذين يزعمون ذلك مشتتين وعلى قدر كبير من الغرور الانتخابي فساهم التشتت السياسي في تشتيت الأصوات وأكلت هذه الحزيبات من صف الحزب الذي كان أمامها أن تتحالف معه انتخابيا ضد النظام القديم على قاعدة اجتناب الضرر قبل تحصيل الفائدة.
المشهد السياسي: العودة 1981.
ليس هناك في تقديري إعادة تشكيل لمشهد سياسي جديد في تونس صبيحة 27 أكتوبر 2014. بل استعادة للحقيقة القديمة التي ثبتت في مناسبتين وهما انتخابات سنة 1981 التي شارك فيها إسلاميون وراء حركة الديمقراطيين الاشتراكيين وحصلوا المكانة الثانية بعد حزب الدستور. والثانية انتخابات سنة 1989 التي شارك فيها إسلاميون تحت مسميات مستقلة وحازوا المرتبة الثانية وراء حزب التجمع فرغم التزييف المنهجي وقتها لا يمكن إنكار الواقعتين. هاتان الحقيقتان كشفتا أن هناك في تونس حزبان كبيران يتنافسان وللمرة الثالثة يكون الفوز للتجمع وهذه المرة دون تزييف بل بتنظيم محكم من الحزب الخاسر.
لكن أين بقية مكونات المشهد السياسي؟
الوجه الآخر لحقيقة المشهد أن بقية الأحزاب كذبة كبيرة لا وجود لها على الأرض.
نقف صبيحة 27 أكتوبر على هذه الحقيقة بعد أن صدقنا أن هناك زعامات سياسية فاعلة وأن لأسمائها أوزانا حقيقية يمكن أن تخلق الطرف الثالث بين الحزبين الكبيرين. ونعني هنا بالأساس أسماء من قبيل أحمد نجيب الشابي ومصطفي بن جعفر وحمة الهمامي والمنصف المرزوقي وأسماء اقل أهمية في المشهد لكنها تخلق ضجة وصخبا يوهم بقوة سياسية. لقد كانت هذه أسماء المعارضة الظاهرة لنظام التجمع وبن علي. وباستثناء الدكتور منصف مرزوقي فان النظام لم يكن يعاملها بجدية بل يحاصرها ويرشيها أو يهش عليها فيسكتها بأقل القليل من القوة. فلما وقفت أمام حقيقة الصندوق عادت إلى حجمها الحقيقي وامحت كأن لم تكن. وسيكون تاريخ 27 أكتوبر هو تاريخ وفاتها السياسية المعلنة وكل ما سنسمعه من هذه الزعامات لاحقا هو البحث عن تذاكٍ يدرأ فضيحة وجودها بإلقاء اللوم على سبب يقع خارج عجزها البنيوي الذي ولدت به كأحزاب بلا برامج ولا قواعد أي بلا مشروع.
هل خدعتنا انتخابات 2011 عن حقيقة المشهد السياسي؟
من زاوية نظر واقعية جدا نعم لقد توهم الكثير أن المشهد تغير لصالح ديمقراطية تعددية وتجسد ذلك في هجوم كاسح على الانتظام الحزبي وتشكلت أحزاب لا تعمر طاولة مقهى وانتفخت زعامات لم تكن تحلم يوما أن تحضر في بلاتوه تلفزي لكن الصورة كبرت بفعل فاعل فظن الكثير أن حجم صورته في الإعلام هو حجمه في الواقع فاغتر غرورا كبيرا ودخل على
الانتخابات 2014 على أساس وهمه فسقط الأصل والصورة. بعد أن عاش على ربوة المزايدة على حزب النهضة مشاركا في الاحتجاج وساكتا عن النظام القديم خاصة بماكينته النقابية فعاضده بوعي أو بدونه. وقبل الاطلاع على الأرقام النهائية للتصويت نعرف أن هذه الحزيبات قد أخذت أساسا من قاعدة حزب النهضة. أو من المؤلفة قلوبهم حولها ممن أحبطت ماكينة الإعلام عزيمتهم و قطعت بينهم وبين حزب النهضة على أساس فشله في تنفيعهم من المرحلة الانتقالية. لقد صوت كثير منهم غاضبا ضد حزب النهضة. وانتهى تصويتهم لصالح من صوت تحت نظام التصويت النافع.
نقف الآن أمام الحقيقة الفاجعة. لقد عاد نظام التجمع بأكثر الوسائل شرعية وربما يمكن لزعاماته ومموليه أن يضحكوا مرتاحين أنهم حققوا عودتهم دون انقلاب عسكري دموي. مكبرين صورة البلد الذكي المسالم الذي تقوده نخبة مدربة.
هو الآن بمسماه الجديد في وضع تشكيل الحكومة بمن يريد كما يريد. وهو يجبر خصمه الألد على مقعد التابع الذليل أو المتفرج المرعوب من المقصلة التي جربت في لحمه. فإما أن يقبل بمقعد التابع وينقذ من جسده ما يمكن إنقاذه أو أن ينتظر على بنك الاحتياط عودة مستحيلة للعب بعد خمس سنوات.
لقد كان الحديث قبل الانتخابات التشريعية أن من يربحها يربح الانتخابات الرئاسية أيضا والوضع الآن ينتهي هناك لكن لصالح النظام القديم. ونرجح أن اللعبة قد استكملت بهدوء منهجي فمقابل التصويت للنداء في التشريعية ستعود الرئاسية للكتلة الدستورية ذات العمق الساحلي فإما مرجان أو الزنايدي أو الزواري وهو الاحتمال الأضعف بالنظر إلى منحدره الجهوي(الشمال الغربي).
فيتشكل بذلك جناحا النظام القديم من العاصمة (نخب الحضر الارستقراطية) والساحل بثقله المالي والسياسي البورقيبي. وفي الأثناء أقصى الجنوب نفسه إلى ما يشبه الفيتو بتصويته لحزب النهضة.
الحكومة القادمة حكومة أمنية.
لن يكون هناك إرهاب سلفي في قادم الأيام. لقد انتهى دوره لكنه سيظل ذريعة إعلامية لتبرير إعادة توظيف القوة ودفعها إلى قرض مربعات الحرية بالسنتمتر بدعوى حاجة البلد للاستقرار وإعادة إطلاق عمليات التنمية الاقتصادية عنوان فشل حزب النهضة ومن تحالف معه(وقانون الإرهاب موجود). فيغلق الباب على كل احتمالات الاحتجاج السياسي وستكون النقابة هذه المرة عاقلة جدا في مطالبها الاجتماعية إذ ستكون جزءا أساسيا من حكومة تشكل الآن. وستعرض ربما لرفع العتب على حزب النهضة مشاركة في حكومة تحقره فيرفضها فيعزل فيضع نفسه في موضع المطاردة.
لن يكون للدستور الجديد أية أهمية في توجيه البلد وسيصمت الحكام العائدون عن مسألة تفكيك المركز لصالح الأطراف وسيصير الحديث عن الميز الإيجابي لصالح المناطق المفقرة نكتة لا تضحك أحدا.
أما الهيئات التعديلية فسيركبها الحاكم الجديد على هواه أما العدالة الانتقالية فتصير من التاريخ وستكون رئيستها أول ضحاياها. وسيكون مال النفط نفطا رفيعا في محرك يعرف كيف يدور. لقد أفاق أنصار
الربيع العربي صبيحة 27 أكتوبر على كابوس حقيقي في تونس. ولا عزاء لمن أنجز نصف ثورة فنجح في التنظيم وخسر الكأس.