حالة من السُعار المتصاعد تتعالى ضد المجتمع المدني في
مصر بمختلف مجالاته وأنشطته سواء الحقوقي أو الثقافي وكذلك الخدمي الإغاثي والتنموي، اتهامات لا تتوقف، وغلق عدد من المؤسسات دون سند قانوني واعتمادا على تحريات أمنية عشوائية، أبواق إعلامية موالية للسلطة تشيطن المجتمع المدني وكل العاملين فيه، وتصورهم كعملاء وخونة ينفذون أجندات أجنبية تضر بالبلاد، تسريبات عن قانون جديد للجمعيات الأهلية أسوأ من القانون الحالي والمرفوض أصلا من كل العاملين بالمجتمع المدني لإعاقته للحركة ولفرضه الوصاية على الجمعيات والمؤسسات وجعلها تحت رحمة الأجهزة الأمنية وهوى السلطة.
يرى البعض أن الهجمة الحالية على المجتمع المدني، تهدف لتأميمه، ولعقابه على التراكم الإيجابي الذى صنعه في مصر خلال السنوات الماضية، وأثناء حكم مبارك، والذى أسهم بلا شك في اندلاع ثورة يناير عبر غرس الوعي، وتشكيل أدوات ضاغطة على الحكم الديكتاتوري، وفضح انتهاكات حقوق الإنسان ونشر الثقافة الحقوقية على الأقل في الجيل الشاب الذى كان شرارة لثورة 25 يناير.
يدرك المعادون للديموقراطية أن المجتمع المدني هو أحد روافع التغيير السياسي والاجتماعي، ولذلك لا بد من كسر هذه الروافع وتجفيف المنابع، لتبقى الجماهير أسيرة لإعلام موجه يمارس الكذب والدجل، وتزييف الحقائق، وينشر الفزاعات بين الجماهي،ر لتسهل قيادتهم وإذعانهم لرغبات السلطة.
الغريب في المشهد الحالي أن السلطة في مصر لا تتوقف مناشدتها للشعب وللمجتمع المدني للتبرع والإسهام في حل مشاكل مصر، بينما تتحرك أطراف أخرى من السلطة للبطش بالمجتمع المدني وتأميم العمل الأهلى، ولعل حالة القلق الشديد التي أبدها عدد من رموز العمل المدني بمصر عقب تعيين السيدة فايزة أبو النجا كمستشارة لرئيس الجمهورية لشئون الأمن القومي يواضح توجهات السلطة تجاه المجتمع المدني الفترة القادمة بما عرف عنها من مواقف سلبية تجاه المجتمع المدني.
تاريخ المجتمع المدني في مصر عريق، وبدأ منذ عدة قرون، ويشهد الواقع أن مشروعات كبرى مثل إنشاء جامعة القاهرة كمثال كان نتاجا لتفاعل المجتمع المدني، ومع أوائل الثمانينات بدأ المجتمع المدني في مصر يخطو خطى جديدة بالتوازي مع العمل الخيرى والإغاثي لتنشأ جمعيات حقوق الإنسان ثم روابط ومؤسسات تعنى أساسا بفكرة المدافعة بدءا من حقوق الطفل ومرورا بحق السكن والمجموعات البيئية وانتهاء بالنشاط الضخم لطلاب الجامعات عبر تكوين الأسر والمبادرات ونماذج المحاكاة التي أخرجت عشرات الآلاف من الطلاب الذين يتمتعون بحس وطني ووعي فكري ورؤية سياسية ومجتمعية لا بأس بها.
الإشكاليات التي تواجه السلطة ولا يوجد لديها إجابات واضحة حتى الآن تجاهها يمكن إيجازها في ثلاث نقاط:
أولا : هل يوجد مجتمع مدني خال من السياسة ولا يؤثر فيها بشكل مباشر أو غير مباشر؟
الفكرة الأساسية للمجتمع المدني تقوم على التنسيق بين المواطنين من أصحاب المصلحة المشتركة للحصول على حقوقهم وحماية مكتسباتهم الشرعية، وحتى النشاط الإغاثي والخيرى هو وجه من وجوه سد الخلل السلطوي وضعف السلطة عن توفير احتياجات المواطنين، لذلك فكل نشاط يقوم به المجتمع المدني يمكن ربطه بالسياسة بشكل غير مباشر بعيدا حتى عن مجال النشاط الحقوقي الذى يزعج الأنظمة، لذلك يعتبر التفكير في خلق مجتمع مدني خال من السياسة وهم متهافت يخطئ أصحابه لأن كل ما يخص مصالح الجماهير مرتبط بتوجهات السلطة وسياساتها التي تصنع المشاكل أو توفر البدائل والحلول.
لكن ينبغي التأكيد عامة أن المجتمع المدني يجب أن يبقى خارج دائرة التسييس والصراع الحزبي؛ لأن هذا ليس دوره بل دور الأحزاب والحركات السياسية.
ثانيا : هل يستطيع المجتمع المدني التخلي عن الهبات والمنح الخارجية ؟ ولماذا ترتضى السلطة أخذ هذه المنح وتعتبر الحصول عليها إنجازا وطنيا بينما تراه خيانة للطرف الأخر؟
من الغريب أن السلطة هي أكبر متلقٍ للتمويل الخارجي بينما تنعت أبواقها العاملين بالمجتمع المدني بالخيانة والعمالة لحصولهم على منح مالية – تحت سمع وبصر النظام – من مؤسسات دولية، و رغم أن الفساد الذى يعترى برامج المنح والمساعدات الأجنبية التي تديرها الحكومات أكبر من الفساد في إدارة المنح التي تتولاها الجمعيات والمؤسسات إلا أن السلطة تريد أن تكون الوكيل الحصري لأى منح خارجية، رغم أن سياسات التمويل الخارجي تشترط حصول المؤسسات والجمعيات المستقلة على جزء من هذا التمويل، والحقيقة أن إدارة إشكالية التمويل أمر سهل ومتاح وله تجارب سابقة ناجحة في عدد من دول العالم عبر تقنينه بتشريعات مقبولة ومرنة تضمن الشفافية وعدم دخول أموال من الخارج بدون علم الدولة وضمان عدم استغلالها في أي نشاط معاد أو إرهابي ولكن من يقومون على التشريع في مصر لا يريدون الاقتراب من هذه النماذج لتظل مسألة التمويل خاضعة لرضا السلطة عمن يتلقى التمويل ولتظل هذه القضية بابا لتشويه المجتمع المدني والنيل منه ومن استقلاله ، ومع تدهور الوضع الاقتصادي وقلة مصادر التمويل تبقى فكرة منع المنح الخارجية عن المجتمع المدني حكما عليه بالموت وتجميد النشاط.
ثالثا : عولمة المجتمع المدني وظاهرة ما يعرف ب ( المجتمع المدني العالمي ) المترابط والمتواصل والمتحد على قضايا وقيم إنسانية كونية عامة يناضل من أجلها ، كيف تواجه السلطة ذلك وهل تستطيع تكميم أفواه المجتمع المدني الدولي ؟.
أصبح العالم بلدا واحدا يتفاعل مع أي قضية أو انتهاك في أي بقعة من الأرض، وأسهمت ثورة الاتصالات في سرعة نقل المعلومة وتداول الأخبار، ومع الوقت صارت الحركة الحقوقية كمثال حركة عالمية تمثل تيارا إنسانيا لا يمكن حجب صوته ولا التقليل من تأثيره، لذلك فالرهان على قمع الأصوات المحلية رهان خاسر ويضعف الموقف الدولي لأي دولة تبحث عن مكان ذي تقدير بين دول العالم.
التعامل مع المجتمع المدني إشكالية كبرى تواجه السلطة في مصر وتشير لتوجهات السلطة تجاه قضايا التنمية وحقوق الإنسان وحرية التنظيم، وإذا أصرت السلطة على الاصطدام الأحمق بالمجتمع المدني بكل مستوياته التنموية والحقوقية والطلابية والخدمية وغيرها فإنها تفتح ثغرات في جدار تماسكها، لأن كل مساس بالمجتمع المدني هو مساس مباشر بمصالح الجماهير، ولن تستطيع السلطة سد الفجوات التي يملأها المجتمع المدني في مصر، وهذا يضاعف من أزماتها وإخفاقاتها، من يريد أن يقدم النصيحة للسلطة في مصر فليخبرها أن فتح مساحات جديدة من
الصراع والمعارك لا يعنى حتمية الانتصار فيها وأن هناك معارك خاسرة يجب تجنب خوضها من الأساس وعلى رأسها الحرب على المجتمع المدني .