علم أحمر صغير يعلوه علم ضخم لمصر مثبتان في عصا طويلة.
لم يبرح العلم مكانه، ولم يتغير صاحبه طوال أحداث محمد محمود الأولى، زاد العدد أحيانا وقل في أحيان أخرى، تصاعدت الاشتباكات في ساعات وهدأت في ساعات تالية، ارتفع عدد الشهداء في أيام وانخفض في أيام ثانية، تطايرت عشرات العيون ونجت المئات من زخات الخرطوش الكثيفة، حرر الثوار عشرات الأمتار ثم عاد الأمن ليحتلها طال الوقت دون بوادر أمل في تحقيق المطالب، تدافعت الاتهامات بالعمالة والخيانة من كل حدب وصوب، وظل العلم وصاحبه في مكانهما من الساعة الأولى وحتى الساعة الأخيرة.
في الأيام الأولى حاولت الوصول إلى مكان العلم حيث خطوط المواجهة الأولى لكني كنت أفشل كل مرة، أتجاوز الكتل البشرية المحتشدة في الشارع حتى أصبح على بعد عدة أمتار منه ثم تهبط قنبلة مسيلة للدموع وسط الصفوف أو تدوي أصوات بنادق الخرطوش فتدب الفوضى وأضطر إلى التراجع.
بعد عدة أيام غلبت خوفي وتقدمت حتى وقفت إلى جانب حامل العلم، دققت في ملامح وجهه الذي شحب من فرط الجهد الذي بذله في الكر والفر واتسخ تحت وطأة الاشتباكات العنيفة والغبار المتصاعد، لم يكن وجها إعلاميا معروفا من تلك الوجوه التي تظهر يوميا في البرامج الحوارية تتحدث عن شروط الثوار لمغادرة الشارع وقبول الهدنة، ولا يبدو أن ملامحه البسيطة ستغري صحفيا بإجراء حوار معه، ولا يبدو أنه أصلا مهتم بذلك.
بعد قليل هدأت القنابل وتوقفت البنادق فدار بيننا حديث لا أتذكر معظمه حول ما ستؤول إليه الأوضاع وما ستنتهي إليه المفاوضات مع المجلس العسكري حول مطلب تحديد موعد الانتخابات الرئاسية والإفراج عن المحاكمين عسكريا، لم يكن لديه تصور عما سيحدث وتحدث فقط عما هو حادث، قال ببساطة إنه هنا لأن هناك اشتباكات وشهداء وجرحى وما دام الوضع كذلك سيبقى هنا، قلت له إن العلم المرفوع يجعله هدفا سهلا للقناصة المتواجدين في محيط وزارة الداخلية، ابتسم بعدم اهتمام وقبل أن يجيب عادت القنابل والبنادق لتدوي فتفرقنا كل إلى حاله.
صمد علم الثورة لأيام في معركة حربية غير متكافئة، لكنه اختفى عندما طلت السياسة بوجهها القبيح ونجحوا في تحويل الثورة من حرب شريفة على المطالب إلى تنافس محموم على المقاعد، راهنوا على السياسة لتحقق أهداف الثورة فعصفوا بأهداف الثورة والسياسة معًا.
على مدى 10 أيام كنت أراقب العلم لأعرف مكان الاشتباك بين المتظاهرين وقوات الأمن، والآن أتساءل عن مصيره لأعرف إن كانت لنا جولات ثانية.
***
3 سنوات مرت تغير خلالها كثير من المعطيات وبات الواقع أكثر سوءًا، والآن يدعو إلى إحياء ذكرى شهداء محمد محمود من خانهم وخوّنهم، ما زالت أسئلة كثيرة لا تجد إجابات لكن سؤالا واحدا يشغلني الآن: أين ذهب صاحب العلم؟ وماذا فعل بعلمه؟.
ربما كره السياسة التي ضيعت الثورة ثم كره الثورة التي مات فيها من كان يجب أن يعيش، ثم انكفأ على ذاته واهتم بعمله وارتبط بفتاة أحبها ويحتفل الآن بأسبوع طفله الأول، ربما أخفى العلم في بيت والدته حتى لا يعرف ابنه حكايته ويؤمن بثورته ويخرج مطالبا بحقوقه يوما فيعود إليه جثة هامدة.
ربما أصيب بعاهة مستديمة في معركة تالية ويعيش على راتب محدود خصصه له المجلس القومي لرعاية أسر شهداء ومصابي الثورة وافتتح بالمكافأة التي حصل عليها محلا لألعاب الفيديو، وربما يضع العلم في مدخل المحل ويتعامل مع الزبائن كأي علم يباع في الإشارات أوقات المباريات المهمة.
ربما انضم إلى حزب سياسي بعدما أقنعوه بأن الثورة مرحلة وانتهت والتغيير الآن يجب أن يتم من خلال القنوات الشرعية ثم استقال من الحزب بعد خلاف مع القيادات وآمن بأن هذا البلد لا أمل فيه لا بالثورة ولا بالسياسة، وربما يحتفظ بالعلم على أحد جدران غرفته ويُنزله من وقت إلى آخر لينظف التراب الذي اعتلاه.
ربما وجد عملا مناسبا في دولة خليجية ما ويتابع أخبار
مصر من على مواقع الانترنت مثبتا لنفسه أنه اتخذ القرار الصحيح وربما فقد العلم بعدما باعته أمه بالخطأ مع الملابس القديمة إلى بائع الروبابيكيا.
ربما استشهد في أحداث مجلس الوزراء أو في أحداث العباسية أو في اشتباك مع الإخوان وربما تحتفظ أمه بالعلم المخلوط بدمائه في دولاب ملابسه وتُخرجه من مخبأه كل ليلة فتقبّله وتدعو على من قتله ثم تنام.
ربما يعرف أنها فتنة ولذلك لم يكفر بالثورة، ويؤمن بأن 25 يناير ستُبعث حية بعدما يدرك عدد أكبر ممن كانوا معه في محمد محمود أنها السبيل الوحيد للخلاص من الفقر والظلم والفساد والإرهاب معا، وربما يحتفظ بالعلم حتى يقف به مجددا في الخطوط الأمامية.
ربما يكون أي خيار مما سبق قد حدث فعلا وربما حدث شيء آخر مختلف، لكن الأكيد أنه كانت هناك ثورة وكان هناك بطل وكان هناك علم، وإذا لم يُكتب للعلم الخروج مرة أخرى أو لصاحبه الحياة في وطن يستحقه، فيكفي أن نتذكر في مثل هذا الوقت من كل عام أن قلة العدد لم تكن أبدا مبررا للهزيمة، وأن الرصاص لا ينجح دوما في اصطياد الأمل.