كتب
سعيد الشهابي: تعددت المواقف والآراء حول تقرير مجلس الشيوخ الأمريكي الذي صدر الأسبوع الماضي حول أساليب معاملة معتقلي «القاعدة». البعض اعتبره تعبيرا عن «الشجاعة» و«الرغبة في الالتزام بالقانون» و«الوفاء لمبادئ الآباء المؤسسين»، بينما صنفه البعض الآخر ضمن «تصفية الحسابات» و«سياسة التبرير» أو «الخداع السياسي». أيا كان الموقف من ذلك التقرير فقد فتح الباب على أمور عديدة: أولها السجال حول
حقوق الإنسان، مدى الحاجة اليها ومدى واقعية الالتزام بمبادئها.
ثانيها: مدى انسجام الشعارات التي يرفعها الغربيون مع ممارساتهم، ثالثها: إعادة تقييم المنظومة في هيكليتها وآلياتها الحالية لتغيير العلاقة بين الحكام والمحكومين، ومدى التطور في معاملة البشر منذ إقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قبل 66 عاما. رابعها: مدى جدوى أساليب الإكراه والضغط والتعذيب لاستحصال المعلومات. خامسها: النقاش الأخلاقي حول مدى قداسة الإنسان واحترام حقوقه والحفاظ على كرامته والاعتراف بوجوده كمخلوق يختلف عن الحيوانات في مشاعره وتطلعاته وإرادته.
وليس بعيدا أن يكون القائمون على إعداد التقرير في مجلس الشيوخ الأمريكي قد اختاروا موعد الإعلان عنه ليتزامن مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول، وهو اليوم الذي أقرت فيه الجمعية العمومية للأمم المتحدة المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان التي تضمنها ذلك الإعلان في العام 1948. ففي اليوم السابق لتلك المناسبة ألقى الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، خطابه السنوي بالمناسبة مؤكدا امتعاضه من استمرار انتهاك تلك الحقوق في عالم اليوم.
منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش، ما سماه «الحرب على الإرهاب» في اعقاب حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 كان واضحا أن منطق القوة هو سيد الموقف، وأن القيم الإنسانية لن يكون لها موقع متقدم في تلك الحرب، فقد انطلقت واشنطن بغضب شديد بعد تعرض الولايات المتحدة لواحد من أكثر الاعتداءات دموية. ووسعت دائرة استهدافها تنظيم «القاعدة»، وبعد أن قصفت أفغانستان وأسقطت حكومة طالبان قررت واشنطن مطاردة تنظيم القاعدة في العالم، فبدأت عمليات الاعتقال والخطف من بلدان عديدة. وهنا بدأ عهد أسود من انتهاك حقوق الإنسان على نطاق واسع. ففتحت السجون في أكثر من 30 بلدا، بالإضافة لسجن «غوانتانامو»، على أرض استأجرتها الولايات المتحدة من كوبا قبل عقود. لقد كان واضحا أن قرار فتح تلك السجون خارج الحدود الأمريكية محاولة لصرف الأنظار عما يحدث فيها من انتهاكات، ولكي تكون خارج التشريعات الأمريكية التي لا تسمح بالتعذيب. وعلى مدى سبعة أعوام سمح قادة البيت الأبيض لأنفسهم بالتصرف خارج إطار التشريعات الدولية. ولم يخف الأمريكيون تعاملهم غير الإنساني مع سجنائهم من المشتبه بانتمائهم لتظيم «القاعدة». ولا بد من الإشارة هنا إلى أن القوانين الدولية لا تسمح بإساءة معاملة السجناء، حتى لو ثبت إرهابهم. فالإرهاب يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون، ولكنها لا تبرر إساءة معاملة المتهمين به.
وهنا يلاحظ أن إدارة بوش مارست عددا من الإجراءات بحق من تتهمهم بالإرهاب منها ما يلي: أولا اعتقالهم خارج إطار القانون، وبدون قرارات قضائية، ثانيا: خطفهم من بلدان عديدة ابتداء بأفغانستان وباكستان وصولا إلى اليمن والصومال وكينيا. ثالثا: التحقيق معهم بوسائل اعتبرتها المنظمات الحقوقية الدولية «تعذيبا»، ومن ذلك «الايهام بالغرق» والحرمان من النوم والضرب وتقييد المعتقل من يديه ورجليه، وتسليط الكلاب على السجين، والتحرش الجنسي، كما كان واضحا من الصور التي خرجت من سجن ابوغريب في العراق. رابعا: سجن المشبته بهم في سجون سرية من بينها بولندا والفلبين والعراق وأفغانستان واليمن وجزيرة دييجو جارسيا في المحيط الهندي، خامسا: تقديمهم لمحاكمات عسكرية لا توفر الضمانات المطلوبة للمحاكمة العادلة وتعتبرها المنظمات الدولية قاصرة عن المعايير الدولية. سادسا: كثيرا ما تكون المحاكمات سرية ولا يسمح للصحافيين بدخولها، وتبرر إدارة بوش ذلك بأنه من أجل الحفاظ على الأمن القومي الأمريكي، سابعا: حرمان المعتقلين من دفاع قانوني إلا على نطاق ضيق، الأمر الذي يحرم السجين من رد التهم المنسوبة إليه بشكل قانوني.
ثامنا: إن
التعذيب جريمة وفق القوانين الدولية والمحلية لأغلب بلدان العالم، والسؤال هنا: ما أثر استخدام التعذيب كوسيلة للحصول على معلومات قد تمنع بعض أعمال الإرهاب والقتل على مقولة إن الوسيلة يجب أن تكون منسجمة مع الغاية؟
هذه القضايا ليست جديدة، كما أن المسوؤلين الأمريكيين لم ينكروها. بل إن الرئيس بوش نفسه وثقها في مذكراته الشخصية، وأكدها في مقابلات إعلامية من بينها على هيئة الإ ذاعة البريطانية بي بي سي. كما ارتبط اسم ديك تشيني بتلك الاساليب، وكانت كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك على علم بها، ولم تحدث اعتراضات ذات معنى من داخل الكونغرس. وحتى الإعلام الأمريكي تحاشى الخوض فيها بشكل جاد. وحين أثيرت قضية التعذيب في الإعلام البريطاني كان الرد الأمريكي (غير الرسمي) جاهزا: لقد مارستم التعذيب أيضا مع الايرلنديين. ومع ان بريطانيا من أكثر الدول التي ترفض التعذيب رسميا، إلا انها كثيرا ما غضت الطرف عنه. وقد اعترف بعض المعتقلين البريطانيين لدى القوات الأمريكية بأن عناصر من أجهزة الأمن البريطانية كانت أما حاضرة حين تعرض بعضهم للتعذيب أو انهم غضوا الطرف عن ذلك. فهناك أشخاص مثل بنيام محمد ومعظم بيغ وثقا ما تعرضا له من تعذيب على أيدي الاستخبارات الأمريكية، ولكن السلطات البريطانية لم تفعل شيئا. كما ان بريطانيا غضت الطرف عن تعذيب مواطنيها في البلدان الأخرى «الصديقة». وفي عام 2010 اعتقلت السلطات البحرينية مواطنا بريطانيا وعرضته لتعذيب قاس. وحين زاره أحد الدبلوماسيين في زنزانته اشتكى من التعذيب، ولكن لم تتدخل السلطات البريطانية لمنع ذلك. وفي شهر اكتوبر/تشرين الأول الماضي بعثت بريطانيا فريقا من جهاز مراقبة السجون إلى البحرين، وفي غضون أيام لقي مواطن بحريني (حسن الشيخ) مصرعه تحت التعذيب، وتم تداول فيلم على المواقع الالكترونية لشاب بحريني وهو يعذب في سيارة شرطة على أيدي عدد من عناصر الأمن. وقد كتبت صحيفة «التايمز» الأسبوع الماضي افتتاحية تدعو لمحاربة التعذيب بشكل أكثر جدية، وكشف دور الاستخبارات البريطانية خلال ما يسمى «الحرب على الإرهاب».
أيا كان الموقف من الرئيس باراك اوباما فلا بد من الاعتراف بأنه منع التعذيب فور وصوله إلى البيت الأبيض في 2009، ولكن هل استطاع تنقية أجهزة الأمن الأمريكية من ثقافة التعذيب وسوء معاملة المعتقلين؟ فلا شك ان منعه رسميا في أمريكا أمر إيجابي، ولكن ماذا عن سياسات القتل الجماعي التي مورست بحق شعوب افغانستان والعراق والصومال؟ لقد اهتز ضمير العالم بالكشف عن فضية التعذيب الأمريكية، لأنها كشفت هشاشة المرجعيات الأخلاقية لدى الدول الكبرى ذات النفوذ الواسع في العالم. وكشفت السنوات العشرون الأخيرة عدم فاعلية التشريعات الدولية التي تمنع المعاملة الحاطة بالكرامة الإنسانية ومنها التعذيب ومصادرة الحريات واحتلال بلدان الآخرين، والقتل الجماعي بالصواريخ والأسلحة التكنولوجية المتطورة والإرهاب. كما يسود الشعور أيضا بنفاق الغربيين في سياساتهم التي تميزت بالازدواجية والانتقائية. وكشفت ثورات الربيع العربي تخليهم الكامل عن دعم الديمقراطية ومحاربة الاستبداد. حتى بلغ الأمر ان تتراجع تطلعات بعض الشعوب إلى مستويات غير مسبوقة خصوصا في ظل هيمنة المال النفطي على توجهات السياسات الغربية. ففي السعودية ينحصر الاهتمام الآن بالمطالبة بالسماح للسيدات بقيادة السيارة.
التعذيب جريمة شنيعة، ولا تكفي التصريحات الرسمية التي تؤكد احترام حقوق الإنسان ورفض التعذيب لمنعه في الواقع، خصوصا في البلدان المحكومة بأنظمة استبدادية. كما لا يكفي ان تعترف واشنطن بأن أجهزتها الأمنية مارست التعذيب. والقول بأن الاعتراف بذلك «شجاعة» كلام فارغ، فحين يعترف القاتل بجريمته فإن ذلك لا يجعله «شجاعا» بل يؤكد جرمه. ولذلك مطلوب من الإدارة الأمريكية اتخاذ إجراءات قضائية صارمة ضد من مارس التعذيب أو أمر به. فالرئيس بوش اعترف به علنا وفي مذكراته، ولذلك لن يقتنع الضحايا بحسن النوايا الأمريكية إلا إذا سمح للعدالة ان تأخذ مجراها وتصل حتى إلى الرئيس ونائبه. وإذا كانت الأمم المتحدة جادة حقا في منع التعذيب، واعتباره خطرا كما هو الايبولا أو الأمراض المعدية الأخرى، فإنها مطالبة بتوسيع دائرة الرقابة والمحاسبة خصوصا للدول المعروفة بممارسة التعذيب.
وحين ترفض بعض الدول مثل البحرين السماح للمقرر الخاص حول التعذيب بزيارة البلاد، فذلك مؤشر قوي لوجود تلك الممارسة، وبالتالي فان كيانات كهذه يجب ان تحال إلى مجلس الأمن ليصدر قرارا ملزما بفتح ملفات التعذيب لديها والاستماع لشكاوى الضحايا. مطلوب أيضا إعطاء المنظمات الحقوقية غير الحكومية المهتمة بمكافحة التعذيب صلاحيات تنفيذية في مجال مطاردة المعذبين. وحيث ان حقوق الإنسان أصبحت قضية تتجاوز حدود الدول، فإن المحكمة الجنائية الدولية يجب ان تخول بمطاردة المعذبين بطلب أما من مجلس الأمن أو الأمين العام للأمم المتحدة أو المفوض السامي لحقوق الإنسان أو جهة معتبرة تمثل المنظمات الحقوقية غير الحكومية. ولا يجب اشتراط عضوية الدول بالمحكمة الجنائية، لأن الأنظمة التي تنتهك حقوق الإنسان وترتكب الجرائم ضد الإنسانية لن تقر بروتوكولات روما.
لقد فتحت الاعترافات الأمريكية مجالا لسجال حقيقي حول حقوق الإنسان وبالتحديد ممارسة التعذيب، وهي فرصة يجب ان لا تفوت، بل تقتضي مصلحة الشعوب الباحثة عن الحرية والديمقراطية الاستفادة منها لإعادة الروح للمشروع الحقوقي الدولي الذي انقضت عليه أنظمة الاستبداد لتقضي عليه مستغلة المال النفطي الهائل. العالم مدعو للوقفة مع الذات والضرب بيد من حديد على أيدي العابثين بحقوق البشر وسلب كرامتهم ومصادرة حقوقهم في العيش الكريم والأمن الشخصي والمجتمعي.
(صحيفة القدس العربي)