كتب
فهمي هويدي: إذا صح أن نفوذ
إيران أصبح يمتد من
لبنان إلى
اليمن، فذلك ربما يعني أنها انحازت إلى
الجغرافيا على حساب التاريخ مقولة تمدد النفوذ نقلت على لسان الدكتور على أكبر ولايتي مستشار مرشد الجمهورية الإسلامية للشؤون الدولية ووزير الخارجية الأسبق. وعممتها وكالات الأنباء العالمية على الملأ يوم الاثنين الماضي 15/12.
وإذ أضع أكثر من خط تحت كلمتي «إذا صح» فإنني لست متأكدا تماما مما قاله الرجل، ثم إنني لا أخفي عدم ارتياح لتلك الفكرة التي رددتها أصوات بعض المثقفين والبرلمانيين في طهران خلال الأسابيع الماضية، إلا أنها كانت معبرة عن آراء شخصية لا تحسب بالضرورة على سياسة الدولة. لكن الأمر لابد أن يختلف حين يصدر الكلام ذاته عن مستشار المرشد للشؤون الدولية، الذي ظل وزيرا للخارجية طوال 16 عاما أتقن خلالها لغة الدبلوماسيين، رغم أنه طبيب أطفال بالأساس. إذ في هذه الحالة لا نستطيع أن نفصله عن سياسة الدولة، الأمر الذي يدعونا لأن نأخذه على محمل الجد بحيث نحاول أن نقلِّبه من أوجهه المختلفة، خصوصا إذا سكتت عليه طهران ولم تحاول أن تصوبه أو تنفيه.
ظاهر كلام الدكتور ولايتي ــ إذا لم يراجع ــ يشير إلى «نفوذ» لإيران في أربع دول عربية على الأقل هي لبنان والعراق وسوريا واليمن، ستؤجل مناقشة حدود النفوذ وصيغته إلى ما بعد تحديد طبيعة العلاقة بين إيران والدول الأربع. ذلك أننا نفهم أن ثمة علاقة خاصة بين طهران والنظم القائمة في الدول الثلاث (سوريا والعراق ولبنان)، وأيا كان رأينا في تلك العلاقة فالشاهد أنها حاصلة بين الدولة الإيرانية وتلك الدول، إلا أن إلحاق اليمن بالقائمة يمثل خطأ جسيما، ينم عن عدم معرفة كافية بالوضع هناك، ولئن غفر ذلك لأي مسؤول إيراني آخر فإنه لا يغفر لمستشار مرشد الجمهورية للشؤون الخارجية الذي كان وزيرا سابقا للخارجية. ذلك أنه ساوى بين النظام القائم في كل من دمشق وبغداد وبيروت وبين اللانظام الحاصل في اليمن. وبين الذين يحكمون في الدول الثلاث وبين الذين يتحكمون في مصير اليمن، ليس بسبب قوتهم أو شعبيتهم ولكن بسبب ضعف الدولة وانهيار مؤسساتها. إذ جرى استثمار ذلك الانهيار من جانب فصيل يمثل أقلية ضمن الأقلية، في القيام بعملية اجتياح للعاصمة وسطو على مؤسساتها أعقبها تمدد في أنحاء الدولة المنهارة، الأمر الذي أسفر عن اختطاف واجهة النظام الذي لم يفهم البعض في طهران طبيعته، فهللوا له هناك واعتبروه انتصارا للثورة الإسلامية. وهذا منطوق يحتاج إلى بعض الإفصاح والشرح.
ذلك أن سكان اليمن (25 مليون نسمة) يتوزع المسلمون فيه ما بين الشوافع نسبة إلى الإمام الشافعي والزيود نسبة إلى الإمام زيد بن على حفيد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب. والزيود يمثلون ثلث المسلمين والتصنيف الشائع عنهم أنهم إحدى فرق الشيعة التي قننت الخروج على الحاكم الظالم. لكن الباحثين لا يضعونهم في سلة واحدة، وإنما يميزون بين ثلاثة اتجاهات داخل المذهب. أحدها أقرب إلى الشيعة والثاني أقرب إلى المعتزلة والثالث أقرب إلى أهل السنة. وهو ما فصل فيه الدكتور أحمد محمود صبحي أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الإسكندرية في مؤلفه الكبير عن «الزيدية»، وأيده في ذلك الدكتور عبدالعزيز المقالح رئيس جامعة صنعاء الأسبق في كتابه عن فكر الزيدية والمعتزلة. الذي عالج التباينات بين الاتجاهات الثلاثة داخل المذهب الزيدي، وقال إن الاتجاه المعتزلي ينكر التَّقية كما ينكر عصمة الأئمة، وهما من أسس التشيع، مضيفا أن الزيدية معتزلة في الأصول وأحناف في الفروع. أما العلامة الشيخ محمد أبوزهرة فقد ذكر في كتابه عن تاريخ المذاهب الإسلامية أن فقه الزيدية «قريب كل القرب من فقه الأئمة الأربعة» (عند أهل السنة).
خلاصة ما سبق أن الزيود الذين هم أقلية نسبية في اليمن (ثلث المسلمين) يتوزعون على ثلاث مدارس فكرية أو فصائل، إحداها يميل إلى الشيعة وعلى خلاف مع المدرستين أو الاتجاهين الآخرين (المعتزلي والحنفي السَّني). ليس ذلك فحسب، ولكن الاتجاه المتشيع بين الزيود لا يعد كيانا واحدا، ولكن أتباعه يتوزعون على عدة عائلات كبيرة كل واحدة منها لها أئمتها. والهاشميون الذين ينتسبون إلى آل بيت النبوة وقبيلة بني هاشم من بين تلك العائلات. والحوثيون الذين تمركزوا في شمال اليمن فرع عن الهاشميين، أصلهم من بلدة «حوث» في محافظة عمران، وإمامهم ومرجعهم الفقهي هو الشيخ بدر الدين الحوثي المتوفى سنة 2010 عن 84 عاما.
مما سبق يتبين أن الحوثيين الذين اجتاحوا صنعاء في 29 سبتمبر الماضي مجرد فصيل صغير لا يمثل الهاشميين ولا يمثل الزيود وبالتأكيد لا يمثلون الشعب اليمني، ولكنهم فرع عن فرع عن فرع، وقد تفوقوا لأنهم أفضل تنظيما وتمويلا، الأمر الذي مكنهم من الهيمنة على المشهد اليمني بصورة مؤقتة. وتلك خلفية لو كان الدكتور علي ولايتي على علم بها لما تسرع وقرر أن إيران أصبحت صاحب نفوذ في اليمن. ولما راهن على فصيل متواضع بهذه الصورة لا مستقبل له في حكم اليمن الذي هو أكبر من الحوثيين وأكثر تعقيدا وأثقل وزنا من جماعتهم.
ثم ما حكاية «النفوذ» الإيراني الذي يتحدث عنه الدكتور ولايتي ممتدا من اليمن إلى لبنان؟ ألا يعد استخدام ذلك المصطلح تأكيدا لما أثير من دعاوى وشكوك بخصوص تطلعات إيران إلى ما وراء حدودها؟ وأيهما أفضل أن تكون إيران الثورة الإسلامية على موقفها من نُصرة المستضعفين ومقاومة الاستكبار العالمي أو أن تتطلع لممارسة النفوذ وزيادته في محيطها العربي؟ ولأنني أحد الذين تفاعلوا مع الثورة الإسلامية منذ أيامها الأولى، فربما جاز أن أقول إن النفوذ المزعوم قد يكون سحبا من رصيد الثورة
وليس إضافة إليه. وقد تمنيت أن تظل إيران الثورة جارا قويا يسعى لنصرة الشعوب، وليس صاحبة نفوذ قوى لدى بعض الحكومات. والتزامها بالرسالة الأولى يدخلها إلى التاريخ، أما المهمة الثانية فهي تخدم جغرافية الثورة وتكاد تخرجها من التاريخ. الأمر الذي يستدعي سؤالا كبيرا هو: هل هزم حلم الثورة أمام طموحات الدولة في إيران؟
(صحيفة بوابة الشرق)