ظهرت جماعة "أنصار بيت المقدس" إلى العلن في 5 شباط/ فبراير 2011، وهي جماعة جهادية عالمية نفذت عدة عمليات ضد مصر وإسرائيل، وقد تحولت إيديولوجية الجماعة تدريجيا عقب الانقلاب العسكري من أولوية مواجهة العدو البعيد متمثلا بإسرائيل، إلى أولوية قتال العدو القريب ممثلا بالجيش المصري وأجهزة الأمن.
وقد بايعت الجماعة تنظيم الدولة الإسلامية وأميرها "أبو بكر البغدادي" مؤخرا، وأصدرت بيانا صوتيا جاء فيه: "نعلن مبايعة الخليفة إبراهيم بن عواد القرشي على السمع والطاعة في العسر واليسر"، كما أصدرت تعميما بتغيير إسمها إلى "ولاية سيناء"، وبثت شريطا مصورا في اليوم التالي لكلمة البغدادي في 14 تشرين ثاني/ نوفمبر بعنوان "
صولة الأنصار"، يظهر تطورا فائقا في قدراتها القتالية وكفاءتها الإعلامية، يحاكي إصدارات تنظيم الدولة "صليل الصوارم" و"لهيب الحرب"، ويتضمن الشريط لقطات متقنة لعملية "كرم القواديس" التي نفذها التنظيم في 24 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي مستهدفا نقطة التفتيش العسكرية في منطقة كرم القواديس قرب مدينة الشيخ زويد بشمال سيناء، والذي أودى بحياة 31 عسكريا مصريا.
أنقسمت ردود أفعال المصريين على إصدار "صولة الأنصار" بين مؤيد متحمس، لدرجة أن في اليوم التالي لصدوره ظهرت راية العقاب التي يتخذها تنظيم الدولة كراية ورمز له في عدة أماكن متفرقة من مصر منها
القاهرة والإسكندرية، وبين معارض ليس بالضرورة مؤيد لنظام العسكر أو السيسي، وإنما كمواطن تربى على سرديات السلطة عن الجيش، ويعتبر خطاب الجهاديين بالنسبة له خطابا جديدا ومكروها حسب ما يمليه عليه الإعلام، وبين مشاهد متحير ليس بمؤيد ولا معارض إنما هو مترقب في تردد وحيرة تجعله يتساءل عن مصير الجيش والدولة في الأيام القادمة وعن مدى صحة أيدولوجيته لو كان مشاهدا مؤدلجا أو عن سلامة صوره العقلية عن الاستقرار والمستقبل الشخصي إن كان غير مؤدلج، استمر الجدل حول تنظيم الدولة وفرعه الجديد عدة أيام تساءل فيها الاسلاميون حول أفكار التنظيم وكيف يرونهم وكيف تنامت قوتهم الهائلة تلك فجأة وماذا سيفعلون لو دخلوا مصر؟!
إذاً، هل فعلا سينجح تنظيم الدولة وفرعه الجديد في الوصول إلى القاهرة كما وصل من قبل للموصل والرقة وسيطر على المساحة فيما بينهما؟!
إذا أردنا أن نجاوب على ذلك السؤال فلا يكفي أن ننظر للحالة العسكرية والجغرافية في مصر، بل علينا أن نتعمق أكثر من ذلك قليلا في تاريخ التنظيم وكيف يفكر وكيف يعمل عقله السوسيولوجي والتاريخي والعسكري وهل تؤهله قدراته فعلا للوصول لبوابات القاهرة على طريق من جثث الجيش النظامي المصري !!
وأصبح الآن جاهزا للكر، زادت عمليات التنظيم في العراق وأصدر الجزء الرابع من سلسلته "صليل
الصوارم" الذي نافس به أفلام هوليود، إنتاج إعلامي ضخم يوضح كيف ان التنظيم لديه جيش من الإعلاميين المحترفين ليس فقط في التصوير بل في إيصال الرسائل للفئة المستهدفة للتجنيد وإيصال الرسائل للفئة المستهدفة للإرهاب والتخويف، بعدها بفترة قصيرة استيقظت مدينة الموصل على خبر فرار الجيش العراقي أمام تنظيم الدولة وسيطرة التنظيم على المدينة بالكامل، في الفترة التي سبقت دخول عناصر الدولة مدينة الموصل تسارعت الأحداث بشكل يصعب استيعابه وفهمه؛
كيفت تحرك تنظيم الدولة من الشرق للغرب ثم من الغرب للشرق ثم من الشمال للجنوب فأصبح على حدود بغداد ثم من الجنوب للشمال فأصبح على حدود أربيل ثم من الشمال للغرب مرة اخرى فسيطر على مطار الطبقة العسكري في سوريا.
هذه التحركات السريعة والتي تبدو عشوائية ومشتتة كتيارات الهواء الساخن يصعب فهمها إلا بعد فهم الخلفية الايدولوجية للتنظيم وأهدافه ومتابعة تحركاته على مدار سبع سنوات من القتال.
كما أنه يستخدم جيشه الإعلامي في عمليات إغراق سيبري لمواقع التواصل الاجتماعي بإصدارات وكلمات صوتية وأخبار أول بأول، كما أن تلك الإصدارات لا تبدو كإصدارات عادية فتقنيتها عالية جدا وإخراجها متميز ورسائلها تصل وتصيب، فجعل من الإعلام مصدرا قويا لللتجنيد والتغلغل الاجتماعي فالتنظيم الآن لديه عمق استراتيجي على عدة مستويات، منها مواقع تمركزه في الشام خصوصا، ومنها تغلغه الاجتماعي والفكري والهوياتي، ومنها ذراعه الإعلامي القوي، ومنها التنظيمات التي بايعته في أنحاء الارض مثل مصر واليمن وليبيا وباكستان بالإضافة للعديد من الخلايا النائمة التي تنتظر توجيها أو فرصة للانقضاض خاصة في دول أوروبا.
مما سبق يمكن أن نستنتج أن تنظيم الدولة الإسلامية ما كان ليستعيد عافيته لولا الثورة السورية التي أعطته قبلة الحياة عندما خلخلت الساحة السورية والعراقية بعد عسكرة الثورة السورية في مواجهتها لقوات الأسد وشبيحته، ثم تحول الساحة السورية لمنطقة توحش سهّل على التنظيم وهيأ له التمدد، فتنظيم الدولة برغم مشروعه الذي يعتمد على منظومة من الآداب السلطانية التي تم أستدعاؤها من تاريخ المسلمين خاصة في العصر العباسي والعثماني، إلا أن استراتجيته الاساسية لإقامة سلطنته هي التوحش، وبدون التوحش وخلخلة الأنظمة لن يستطيع التمدد، فهو تنظيم حداثي في تعامله مع الفصائل الأخرى، استبطانه لآليات الدولة العسكرية في التعامل مع الرعية وتنظيم ما قبل، حداثي في تعامله مع الدول الحديثة والجيوش النظامية، لذلك نجد أنه يقاتل باقي الفصائل على ملكية شرعية الجهاد الوحيدة واصما غيره بالمرتدين والصحوات والشبيحة والعملاء لكنه يستخدم أساليب تدمج بين حرب العصابات وحرب الجيوش النظامية بجانب أساليب وآليات الخلخلة لإحداث التوحش داخل المناطق التي يريد التمدد داخلها.
تنظيم أنصار بيت المقدس أو"ولاية سيناء" حديثا قد أستورد تلك الأساليب العسكرية مع جزء كبير من تفكير تنظيم الدولة مما جعله يحسم قرار مبايعته من قبل للبغدادي، وفي حين يشتد القتال في سيناء بين الجيش والمجاهدين سيعمل التنظيم على محاولة خلخلة الوضع وإقامة مناطق توحش ليستطيع التمدد خلالها في قتاله مع الجيش المصري وتثبيت أقدامه في صحراء سيناء والصحراء الغربية.
أسلوب إدارة التوحش الذي طرحه أبو بكر ناجي في كتابه "إدارة التوحش" هو منافسته العمل الذي يستخدمه التنظيم وفروعه، لكن هذا الشكل ربما لم تعرفه مصر طوال تاريخها إلا مددا قصيرة جدا تعتبر لحظات في تاريخ الشعوب والأمم، كما أن طبيعة الشعب المصري مختلفة تماما عن شعوب مثل سوريا والعراق، فشعب العراق الذي اعتاد على الفوضى التي صنعها الاحتلال الأمريكي شعب مسلح خاض حروبا حقيقية على مدى نصف قرن وتجرع من مرارة الحروب الكثير، أما الشعب المصري فطوال نصف قرن لم يحارب إلا ست ساعات وحتى في فترات الأزمات بين الإسلامين والدولة وماتبعها أحيانا قليلة من المواجهات كان الشعب بمنأى عن ذلك كله يراقب من بعيد مشغولا بهمومه الخاصة من طلب الرزق وقوت العيش.
فإذا أراد التنظيم الدخول فعليه إلا يكتفي بخطاب المظلومية في مواجهة الدولة، بل عليه أن يواجهها في سطوتها المادية في شكل مؤسسات الدولة العتيقة وبيقراطيتها [أن يوقف ذلك الجسم العملاق ويسدد فيه الضربات حتى ينهار، وعليه أن يواجه سطوتها المعنوية من خلال هدم أسطورة الدولة في نفوس وعقل أطياف الشعب المختلفة وأشعارهم دوما ان الدولة عاجزة عن حمايتهم أو إعاشتهم،
لكن هل هذا الكلام واقعي ويمكن أن ينطبق على الوضع في مصر؟
الناظر في تاريخ مصر الحديث من أول عهد محمد علي وبنائه للجيش المصري الحديث مرورا بالهالك عبد الناصر ثم السادات والمخلوع مبارك، نجد أنه برغم اختلاف الظروف في كل عهد إلا أن سردية الجيش المصري واحدة، وبرغم كل هذا الفساد والترهل الذي يعتريه إلا أنه مازال مؤسسة قوية لها سطوة عسكرية وسطوة معنوية سواء على المجندين أو الشعب بما فيهم مغفلي الإسلاميين الذين لا يزالون يتباكون على الجيش المصري الوطني الذي ذبحهم في الميادين ومستعد لفعل هذا في كل مرة تكون فيه مصالح جنرالاته في السلطة أو الإمبراطورية الاقتصادية مهددة.
فالجيش المصري لا يزال يتمتع بصحته، ومؤسساته مازالت قائمة وقوية، كما أن كفاءته العسكرية تعتبر عالية وليست ضعيفة، وعلى المستوى المعنوي لا تزال لسمعته سطوة معنوية لدى عموم الشعب رغم أحواله المعيشية المتدهورة في مستنقعات الفقر والجهل والبؤس.
لكن هذا لايعني أن فرصة التنظيم مستحيلة في الوصول، فالوضع العسكري في سيناء وليبيا يبشر بمزيد من الإنهاك والتدهور على المستوى العسكري وبمزيد من الخلخلة والفوضى على المستوى المجتمعي والسياسي.