بعد عشرات السنين من سياسة خارجية خاملة وسلبية اكتفت بأن تكون تابعة و"قاعدة متقدمة" لحلف شمال الأطلسي، استفاقت
تركيا مع بدايات القرن الواحد والعشرين على أسئلة الهوية والدور والتأثير، ووجدت ضالتها في كتابات منظر سياستها الخارجية ورئيس وزرائها الحالي أحمد داود أوغلو ونظرياته حول "تصفير المشاكل" و"العمق الاستراتيجي" و"الدولة المركز".
هذه النظريات التي حللت المشهد الدولي واستشرفت التطورات القادمة، وجدت في لحظة الربيع العربي سانحة لا يمكن تجاهلها لتطبيقاتها العملية. أخيراً، لاحت لتركيا فرصة ذهبية لاستثمار عملها الدؤوب على مدى سنوات طويلة في مد الجسور الثقافية والاقتصادية مع العالم العربي، وبدا مرة أخرى أن التقاء المصالح مع المبادئ يمكن أن يثمر مكاسب استراتيجية مع دول، تعيد اكتشاف ذاتها وبناء مستقبلها على أسس جديدة.
لكن تركيا أفاقت لاحقاً على لحظة الحقيقة تماماً مثلما أفاقت القوى الرئيسية في الربيع العربي، حقيقة فقدان أوراق القوة التي كان يمكن لها أن تضمن تغييراً مستداماً وغير باهظ الثمن؛ فأذرع السياسة الخارجية التركية ما زالت محصورة في الإطار الاقتصادي - الثقافي وهو ما يمكن أن يفيد في حالات "صفر مشاكل". أما حين تحول الإقليم إلى "صفر هدوء" فقد عاينا بوضوح افتقاد أنقرة للقدرة على التأثير؛ بسبب ضعف ماكينتها الاستخباراتية - العسكرية في الخارج وحداثة عهدها.
ولهذا تحديداً - إضافة إلى أسباب أخرى كثيرة - اضطرت تركيا إلى التراجع التكتيكي والتخلي عن سقفها العالي جداً في
سوريا، حين تنبهت إلى تسارع خطوات التقارب الإيراني - الغربي الذي كان ينبئ بحل أو توافق بعيد عما تطلبه أنقرة، فكان أن قبلت بالحل السياسي وشجعت المعارضة السورية على المشاركة في جنيف 2، بعد حملة دبلوماسية نشطة باتجاه بغداد وطهران وأربيل.
ولئن اكتفت تركيا حتى الآن بالمتابعة ومحاولة التأثير من الخلف، في ظل الأسباب سابقة الذكر إضافة إلى تعدد مصادر التأثير والولاءات في المعارضة السورية السياسية والعسكرية، إلا أن هناك بعض الإشارات المهمة وذات الدلالة لاحت في الأفق في الفترة الأخيرة، قد تشي بدور تركي مبادر وأكثر فعالية فيما يتعلق بالحل السياسي في سوريا، منها:
أولاً، التقارب التركي الروسي في الآونة الأخيرة في ظل برود العلاقات مع واشنطن وتحت وطأة الضرورة الاقتصادية للطرفين، الذي تخطى حدود تلك الضرورة ليصل إلى شبه مبادرة روسية لا تعترض عليها تركيا من ناحية المبدأ، بل تدعو صراحة - وعلى لسان أردوغان نفسه - إلى عدم استبعاد أي طرف من الحل في سوريا، وخاصة روسيا وإيران.
ثانياً، إشارات الرغبة التركية في تصحيح العلاقات مع دول الخليج ثم مع مصر، إضافة إلى انضواء الجميع تحت مظلة "التحالف الدولي" لمواجهة تنظيم الدولة، باعتبار أن التقارب أو التواصل في ملف ما، قد يؤدي إلى مثيله في ملف آخر.
ثالثاً، انتخابات ائتلاف قوى المعارضة السورية التي جرت قبل أيام، والتي أسفرت عن فوز د. خالد خوجا برئاسته، وهو المعروف بأنه "تركي الهوى" كما يحب البعض أن يطلق عليه. وسواء كان هذا "قراراً" تركيا بأخذ زمام المبادرة، أم تراجعاً خليجياً (قطر والسعودية تحديداً) عن الإمساك بهذا الملف، أم قناعة ذاتية لدى المعارضة السورية، فإن المحصلة واحدة وهي دور أكبر لأنقرة في الحل السياسي المرتقب.
إن الأحداث الدائرة في سوريا قد خرجت منذ زمن طويل عن ثنائية النظام والشعب أو النظام والمعارضة، إلى صراع إقليمي ودولي، وبالتالي فمن البديهي أن يكمن مفتاح الحل في توافق ما على هذين المستويين: بين الولايات المتحدة وروسيا وبين تركيا وإيران (والسعودية بدرجة أقل).
وفي ظل إشارات تركية واضحة وأخرى إيرانية خجولة حول هذا التوافق وحدوده وتفاصيله، وفي ظل أوراق القوة التي يمكن لأنقرة لعبها وعلى رأسها ورقة المعارضة السورية والحدود المشتركة والقدرات الاستخباراتية والعسكرية والمناورة بالورقة الروسية، يبقى السؤال الذي ستجيب عليه الأيام والأسابيع القليلة القادمة: هل ستبادر تركيا لوضع أوراقها على الطاولة والانخراط بشكل فعال في اللعبة؟