شخصيا لا أعرف فارقا كبيرا في المدرسة التي ينتمي لها وزير التخطيط الأسبق في الأردن الصديق الدكتور إبراهيم سيف أو تلك المدرسة التي ينتمي إليها سلفه الجديد الدكتور عماد الفاخوري.
كلاهما فاخوري وسيف مقرب من "النهج الأمريكي" في التفكير الإقتصادي المتحرر وكلاهما لا يستطيع عصيان أو رفض أي "أمر" لرئيس
وزراء محنك من طراز الدكتور عبدالله النسور الذي يدهشني شخصيا في قدرته على إختراع ميكانيزمات الصمود والبقاء.
السؤال يصبح: لماذا إذن اصبح الثاني وزيرا للتخطيط وعلى أي أساس إنتقل الأول ليصبح فجأة وزيرا للطاقة في بلاد أزمتها المالية الحقيقية تنحصر في كلمتين فقط "فاتورة الطاقة"؟.
أنا شخصيا لا يوجد لدي جواب.
وأعتقد أن الوزراء أنفسهم في الأردن لا يدري أي منهم لماذا يصبح وزيرا ويغادر دون ان يدري على أي أساس.
ومع التقدير الشديد لشخص الرجلين وجميع زملائهما لا نتحدث هنا عن المهارات والإمكانات الشخصية فهي برأي الناس على الأقل محدودة او غير مفهومة بكل الأحوال عند الجميع.
ولكن نتحدث عن تلك الآلية البائسة والوصفات السرية الغامضة التي تصنع الوزراء وكبار المسؤولين وفقا لذهنية غامضة مريبة تصلح للأقبية وللأنظمة الشمولية أكثر ما تصلح لبلد يتطلع للمستقبل بثبات وتقترح قيادته على شعبه أوراقا للنقاش العام.
ليس سرا في السياق أن الوزراء في الكثير من الحالات -وانا لا أعمم هنا- تخدمهم الصدفة أو ظروف القبيلة والجهة والمكان عند الإختيار فكل المعايير الثانوية يمكن أن تقفز بأي كان لتصدر الموقع الوزاري بإستثناء الكفاءة والمهنية التي تنتقص بمهارة عندما ينجح الجو السلبي العام في إحباط وتدمير فرصة الإنجاز عند اي حالة يوضع فيها الرجل المناسب بالمكان المناسب.
لذلك فقط تجد وزراء في العائلة الواحدة او عائلة مؤلفة من خمسة وزراء توارثوا المواقع..لذلك فقط قد تكون الحكومات في عمان هي الوحيدة في العالم التي يصلح فيها وزير المياه لإدارة وزارة للتنمية السياسية لاحقا أو يتحول فيها وزير تربية وتعليم إلى وزير سياحة، أو تختفي فيها وزارة السياحة عدة سنوات لتعود وتطل بدون ان يتكلف اي شخص بتوجيه سؤال حول اندثار الوزارات وموجبات دمجها أو التراجع عن الدمج.
توجد وزارات في الأردن بدون موظفين وبدون عمل حقيقي في الواقع واحيانا بدون مخصصات وكأن المطلوب هو صناعة مشهد تتجول فيه سيارات فارهة او حقائب نسائية مترفة بين الأزقة بدون هدف او مضمون.
يتوالد الوزراء ويتكاثرون كالفطر بدون عنوان او مضمون وبدون حساب او عتاب وغالبيتهم يعبرون كالكلام العابر لا تعرف بوضعهم إلا زوجاتهم لأن الشعب توقف ضجرا ويأسا عن تعداد ممثليه في الوزارة لدرجة ان المزحة الأكثر رواجا في بلادي هي تلك التي تخاطب الشعب على النحو التالي "..
معالي الشعب الكريم..".
غالبية من أخالطهم يتصورون بان الوزارة ستأتيهم يوما، وبأنهم أجدر من كل الذين يتم اختيارهم والمئات من معارفي يضعون الماكياج ويجلسون بجانب الهاتف كلما لاحت تباشير التعديل او التغيير الوزاري.
شاركت شخصيا في عهد حكومة قديمة رغم حداثة سني في ذلك الوقت في زرع حقيبة وزارة التموين بحضن شخص لم يكن في البلاد أصلا عند توزيع الحقائب وذلك عبر اتصال هاتفي صغير مع إحدى قريباته وأعلم شخصيا بأن وزيرا من إحدى العائلات تم اختياره لأن قريبه تأخر عن مراسم القسم فتمت الاستعانة بأول شخص ظهر من نفس العائلة.
أعرف بحكم عملي عشرات الحالات التي انطوت على "تعبئة فراغ" ليس أكثر فعدد الحقائب الوزارية لكل منطقة او لكل قبيلة او مكون يتقرر أولا ثم يبدأ سوق المزايدات والترشيحات والأسماء كما يحصل تماما في الانتخابات، ونادرا ما يهتم القوم بتلك الوزارات الخدماتية التي يمكن تعبئتها بمن حضر لا على التعيين.
أعلم مسبقا بأن هذه الآلية هي المعتمدة في تشكيل الحكومات في بلدي للأسف الشديد، وانها لن تتغير إلا بتطور الحياة الحزبية وحصول انتخابات نزيهة بناء على قوائم حزبية وطنية.
لكن متى يسمح وزراء الغفلة هؤلاء ومن ماثلهم في بقية المواقع بولادة التجربة الحزبية أصلا ؟..وكيف أتوقع كمواطن صالح طامح في ان أرى وزيرا يملأ عيني فعلا ولو لمرة واحدة ما دام القوم يتقاسمون الحقائب والغنائم مثخنين في جراح الوطن، فيما تنكفئ الشخصيات الوطنية الثقيلة على نفسها وتتوارى عن الأنظار ولا أحد يستشيرها أو حتى يسألها.
لو كنت مكان اي من "المحظيين" بآلية المحاصصة السقيمة لسهرت الليالي حتى أعمل ضد الإصلاح الحقيقي لأن بقاء موقعي الذي حصلت عليه بالصدفة المحضة وبسبب اعتبارات غير وطنية او مهنية منوط بآلية تنتمي للماضي وللمجتمعات الرعوية ما قبل الدولة الحديثة.
إلى أن تتطور الحياة الحزبية يمكن لاختيارات الوزراء على الأقل ان تحترم ولو قليلا عقل المواطن الأردني، ويمكن ان تخفف ولو قليلا من منسوب وحجم البؤس.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)