يعمل المواطن السوري أبو محمد منذ زمن بعيد بالتنقيب عن
الآثار، بعيداً عن أعين الرقابة والقيود التي كان يفرضها النظام سابقاً، باعتبار التنقيب جريمة لا تغتفر، ولا يمكن أن يسامح عليها، يقول أبو محمد، وهو تاجر آثار معروف في الشمال السوري: "لم يضع النظام كل هذه القيود حباً بالبلد، أو حفاظاً على تراثها؛ إنما لأن تهريب الآثار في
سوريا كان حكراً على الشخصيات والضباط البارزين المقربين من رأس النظام".
وبعد اندلاع الثورة في سوريا، والانفلات الأمني الذي حصل في شمال البلادن وجد أبو محمد ومجموعة من أصحابه الفرصة سانحة للعمل في التنقيب، فعمدوا إلى إحضار أجهزة للكشف عن المعادن، وباشروا العمل بشكل علني في المناطق الأثرية التي تنتشر بكثرة في ريف إدلب وحلب والمنطقة الشمالية بشكل عام.
وأضاف أبو محمد لـ"
عربي21": "تحتاج مصلحة التنقيب إلى الكثير من الخبرة، لأن الحظ لا يحالف كل من يعمل به، كما أن اللقى الأثرية ليست كلها ذات قيمة، فهناك العديد من القطع الأثرية التي يتم الكشف عنها، ولكن لا يكون هناك أي فائدة مرجوة منها، ولا يمكن بيعها أو نقلها إلى الدول المجاورة، إضافة إلى ذلك، يجب على كل من يعمل بالتنقيب أن يكون خبيراً في العلامات، والإشارات التي تكون منقوشة على الصخر في مناطق وجود الآثار، حيث إن لكل رمز منها دلالة معينة".
وعلى الرغم من أن أبا محمد يعتبر أن ازدياد نسبة العاملين في التنقيب أمر له عظيم الخطر على البلاد، لأنه ينهب الإرث الحضاري، ويساعد على وبعثرته وتشتيته، إلا أنه يبرر ذلك بأن الحاجة دفعت العديد من الأسر للعمل فيه، بعد أن وجدت نفسها دون عمل تستطيع من خلاله أن تتدبر أمور معيشتها، وعلى مبدأ أن "الحي أبقى من الميت" فإن أبا محمد يرى في ذلك مبرراً للعمل بالتنقيب في حال أن الهدف منه سدَّ الحاجة، وتأمين مصدر للعيش.
تهريب الآثار وبيعها خارج البلاد لم يعد العامل الوحيد الذي يساهم في ضياع القيمة الأثرية والحضارات القديمة في سوريا، بل إن القصف المكثف من قبل قوات النظام، وطيرانها الحربي والمروحي، أجبر السكان على الهروب من مدنهم واللجوء إلى الأبنية التاريخية، والقصور القديمة؛ ظناً منهم أن تاريخها الضارب في القدم يحول بينهم وبين طائرات النظام ومدفعيته، فكانت النتيجة استهدافهم مجدداً وقصف المناطق الأثرية، ما أدى إلى تخريب وهدم أجزاء كبيرة منها، فضلاً عن تحويل العديد من القصور والأبنية القديمة إلى حظائر وإسطبلات لحيوانات النازحين، التي هي الأخرى لم يوفرها قصف النظام وغاراته الجوية.
أبو إبراهيم قال في حديثه مع "
عربي21"، وهو مهتم بشؤون الآثار،: "نتيجة القصف والدمار يضطر عدد من الناس في بعض المناطق الأثرية إلى هدم بيوت القديمة والقصور، والكنائس، وإعادة بنائها من جديد، ونتيجة لكبر الحجارة المستخدمة في الأبنية القديمة، وعدم قدرة الناس على حملها ورفعها إلى الأعلى أثناء البناء، قاموا بتقطيعها إلى حجارة صغيرة، وبذلك انتفت عنها صفة القدم، ومسحت هوية عدد من المناطق الأثرية، خاصة في ريف إدلب بشكل كامل، وعادت وكأنها مدن حديثة ليس فيها ما يدل على قدمها إلا ما حفظه أهالي المنطقة عن تلك النقاط والمعالم الأثرية".
ويؤكد أبو إبراهيم أن هذا الأمر انتهاك كبير بحق الإرث الحضاري الذي تحتل سوريا المراتب الأولى في العالم من حيث التراث، ويضف: "المؤسف أنه ما من سبيل لعمل أي شيء في ظل الظروف الراهنة، ولا شيء يمنع هذه الانتهاكات أو يوقفها على أقل تقدير، وما يدفع السكان على هذا العمر هو الفقر وقلة المردود من جهة، والقصف العشوائي والغارات الجوية اليومية التي تتعرض لها القرى والمدن السورية المأهولة، إضافة إلى غياب السلطات التي تهتم بهذا الأمر، وتستطيع وضع حد لكل هذه الانتهاكات".
وختم حديثه بالقول: "في حال لم يتم تدارك هذا الأمر، والعمل الجاد على إيقاف هذه الظاهرة؛ فإن الآثار السورية لن يكون مصيرها أقل سوءا من مصير العديد من المدن والقرى السورية التي دمرت بشكل كامل وأصبحت أثراً بعد عين".