لم أجد في حدود مطالعتي للتاريخ المصري في العصور المختلفة، أي ذكر لثورات المصريين على حكامهم، فقط وجدت أنهم يثورون وينهضون ضد الحاكم الأجنبي: ضد الهكسوس، ضد الإنجليز، ضد الفرنسيين، ضد الأتراك، ضد المماليك.
وأما حكامهم فمهما كانت سيرتهم الظالمة لم ينهض المصريون – في حدود معلوماتي- ضد هؤلاء الحكام من بني جلدتهم، ولا أدل على ذلك من كون بناء الأهرامات قد سخر له الفراعنة جزءا كبيرا من موارد الدولة، وآلاف العاملين بالسخرة، ومع ذلك لم يسجل التاريخ أن اعترض الشعب المصري على هذه الصورة الظالمة ولو كانت تشيد حضارة وتاريخا.
وكانت ثورة 25 يناير هي المرة الأولى التي ثار فيها المصريون على حاكم مصري، وانتهت بتنحي الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، وقلنا وقال الجميع: الشعب المصري عرف طريق الثورة ولن يسمح بعودة الظلم مرة أخرى، فقد تحرر من سطوة الخوف من عصا الفرعون.
كان من المفترض ألا يسمح الشعب بتسلط حاكم جائر بعد أن أرسى ذلك الشعب ولأول مرة قواعد الديمقراطية في مصر الحبيبة.
فكيف عادت الدولة البوليسية، وكيف عادت الدولة العميقة، وكيف تسلط على البلاد رجل سفك دماء الآلاف من المسالمين، ونكل بالشرفاء، وحارب الدين؟
هل هو انحياز مؤسسات الدولة الصلبة من جيش وشرطة وإعلام وقضاء للديكتاتور؟
قطعا لا، فهذا الوضع هو نفسه الذي ثار عليه المصريون في 25 يناير وفرضوا كلمتهم عليه.
هل هي النخب العلمانية والليبرالية والقبطية والحزبية أصحاب العداءات والثارات مع الإسلاميين؟
قطعا لا، فهذه النخب وتلك الأحزاب طالما مارست دورها في مواجهة الإسلاميين، لكنهم لم يملكوا قواعد شعبية، لأنهم ببساطة يتكلمون من أبراجهم العاجية ولا ينزلون إلى الشارع لمعايشة همومه وقضاياه الحياتية، فجُلّ بضاعتهم التنظير والتقعيد والتأصيل والمؤتمرات والتصريحات.
فما الجديد الذي كان الورقة الرابحة لدى هذا الديكتاتور ليجثم على صدر مصر؟
* إنه الظهير الشعبي...
استطاع هذا الرجل أن يقسم الشعب المصري إلى فسطاطين، صنع من أحدهما عدوا، وجعل يعبئ ويجيش ويسخر القوى المادية والمعنوية ضده، ويصنع بطولته ومجده الشخصي على رفاته. وصنع من الآخر سندا وظهيرا شعبيا، يستخدمه كغطاء شرعي في كل قراراته وأفعاله الدموية، فهو الذي أعطاه التفويض، وهو الذي سار في ركب القوى العلمانية والليبرالية والقبطية والمباركية (الدولة العميقة) من كتلة 30 يونيو، والتي كانت تحضيرا للانقضاض العسكري على السلطة ومقدمة له.
حدثني الكثيرون من إخواني المصريين، أن عددا غير قليل من شباب الثورة، تم إلقاء القبض عليهم أثناء فض المظاهرات على يد أناس من مؤيدي السيسي وظهيره الشعبي.
حدثوني أن بعض الجيران يبلغون عن جيرانهم من المنتسبين للإخوان أو مؤيديهم بدافع الوطنية الموهومة.
ومن طرائف ما رواه بعض الإخوة، أن هذه الجماهير التي جعلها السيسي تعيش في وهم الوطنية بمعاداة التيار الإسلامي، ألقى بعضهم القبض على أحد الثوار، فقال أحدهم: هو من الإخوان، أعرفه جيدا، (اقبضوا عليه) كان يطرق باب أمي ويعطيها من (أكياس الصدقات).
لقد صنع السيسي لهؤلاء البسطاء وهم الوطنية المزعومة، وأنها تعني ببساطة أن تكون ضد الإخوان وهو ذلك المسمى الذي صار فضفاضا يتسع لمعظم الإسلاميين.
هؤلاء المخدوعون كانوا عماد انقلاب السيسي، والذي أعاد فلسفة فرعون في حكم مصر، حيث يجعلهم يدينون له بالولاء والطاعة بعد أن استخف بعقولهم وصور لهم الباطل حقا والحق باطلا {فاستخف قومه فأطاعوه}.
أوهمهم أن الإخوان يريدون أن يحكموهم أو يقتلوهم، أوهمهم أن الرئيس مرسي هو زعيم الجماعة وليس رئيس مصر، أوهمهم عبر إعلامه الوضيع بأن كل عمليات العنف والتخريب والتدمير هي من صنع الإخوان، أوهمهم أن مصر عندما تقلع جذور النظام الإخواني سوف تصل إلى مكانتها اللائقة، (وبكره تشوفوا مصر).
بعد أن قتل واعتقل ونفى، جعل من نفسه بطل الفيلم الأوحد وانفرد بخشبة المسرح، يعرض مقارنة للبسطاء بين ضميره الحي ووطنيته اللامتناهية وعشقه لشعب مصر حتى الثمالة، وبين عدوه (الإخوان) الذي لا يستطيع أن يدافع عن نفسه أمام عبثية المحاكمة، ليعيد سياسة الفرعون: {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين}.
وصار يعبث بأحلام البسطاء، وأنه سوف يرفعهم إلى الجوزاء بالمشروعات الاقتصادية العملاقة التي لا تغادر أوراقها إلا إلى الفشل والتراجع والتصادم مع الواقع، يطرق على احتياجاتهم الأساسية تماما كما فعل فرعون {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي}.
اعتمد على بساطة المنتمين إلى هذه الفئة في تقرير باطله، ولو خالف العقل والمنطق، لعلمه أن هؤلاء غالبا يفتقدون القدرة على التفنيد، ولعلمه كذلك أنهم يتحركون بدغدغة العاطفة، فأوهمهم أنه ينبغي الخروج على النص الإسلامي والنظر إليه من جديد، فجعل من نفسه مهيمنا على الشريعة، محاكيا بطريقة أو بأخرى صنيع فرعون: {أنا ربكم الأعلى}.
فربح السيسي جولاته بهذا الظهير، الذي صار وحده يعبر عن الشعب المصري، وأما الأصوات الأخرى فهي للإرهابيين والعملاء وأعداء الوطن.
هذا الظهير الشعبي من البسطاء والمغيبين حتما سوف يفيق على صدمة مزلزلة بالواقع المرير عندما تتهاوى أحلامه وآماله وتطلعاته، بأنه بنى قصرا من الرمال، وعندما يدرك أنه أعاد الظلم الذي ثار ضده يوما ما.
لكن هل ستكون هناك جدوى ساعتها من إدراكه؟ وهل سيعيد تشكيل الأوضاع من جديد؟
بنظرة شخصية، أعتقد أن هذا لن يكون في ظل مناخ القهر والاستبداد والتسلط الذي سوف يجعل الناس غالبا كمن عناهم الشاعر:
تبلّد في الناس حس الكفاح ومالوا لكسب وعيش رتيب
يكاد يزعزع من همتي سدور الأمين وعزم المريب
لكن المعوّل (رحمة الله) بهذا الشعب المقهور، ثم ذلك الشباب الأبيّ الذي تربى في ميادين النضال، والذي لا زالت دماء الثورة تسري في عروقه، ويتطلع إلى مستقبل يليق به وبوطنه.