فجاءة وفي خضم انشغال الإعلام العربي والعالمي بالتطورات في اليمن وفي تكريت، سيطرت فصائل سورية معارضة على معبر نصيب الحدودي مع الأردن، وظهرت "داعش" في مخيم اليرموك. وتوجه الاهتمام الأردني إلى نصيب، مع مخاوف من تهجير من تبقى من سكان في مخيم اليرموك إلى الأردن.
والواقع أن مخيم اليرموك لم يبق فيه سوى عدة آلاف من سكانه الأصليين، ولا يبدو أنهم في وارد التوجه إلى الأردن نظراً لخطورة الطريق من المخيم إلى الحدود في وضعها الحالي، هذا إذا فكروا في هجرة المخيم أصلاً بعد كل الأهوال التي شاهدوها طيلة 3 أعوام ولم تقنعهم بترك بيوتهم.
أما السيطرة على معبر نصيب فهي لا تعدو كونها قيمة رمزية أكثر منها تهديداً حقيقياً لأمن الأردن، فيما لا يخفى على أحد أن تحرك الفصائل المعارضة هناك ما كان ليتم لو كان هناك رفض أردني له، هذا إن لم يكن رفع مستوى المساعدات للمعارضة السورية عبر الحدود الأردنية عاملاً مهماً في تقدمها الميداني الأخير. وعبر سنوات النزاع في
سوريا لم يمر عبر المعبرين الرسميين (جابر ودرعا) سوى عدد محدود من اللاجئين، وبالتأكيد لن يمر إرهابيون عبره كذلك. وكانت المناطق الحدودية الوعرة التضاريس غرب مدينة الرمثا الأردنية والصحراوية شمال شرق مدينة المفرق هي المدخل الرئيس للاجئين السوريين إلى الأردن، والممر المعتاد للسلاح من الجانب الأردني إلى الجانب السوري حين يتخذ قرار أردني بذلك بعد الاتفاق مع حلفاء آخرين، كما هي الممر شبه اليومي للمقاتلين السوريين أثناء ذهابهم وعودتهم بين جنوب سوريا وشمال الأردن.
وفيما يخص الأثر الاقتصادي لسقوط وإغلاق المعبر فهو بالفعل أصغر من أن يؤخذ في الحسبان بعد تراجع النقل البري عبر معبر جابر الأردني ونصيب السوري إلى مستويات غير مؤثرة.
الخطر يأتي في الواقع من مكامن أخرى غير معبر نصيب وغير مخيم اليرموك.
في العام 2012 ومع بدايات العام الثاني للثورة في سوريا قال مدير الأمن العام الأردني وقتها وزير الداخلية الحالي حسين المجالي في تصريح صحفي مشهور أن لا تهريب للسلاح بين الأردن وسوريا، لأن الحدود إذا فتحت للتهريب فإنها تفتح على الجهتين، وليس فقط على جهة واحدة. ولكن المجالي مثل مسؤولين آخرين كان شريكاً في قرارات تمرير شحنات سلاح كبيرة عبر الحدود الأردنية، انتهى بعضها إلى أيد "غير صديقة" مثل تنظيم داعش، وإلى أيد "صديقة إلى إشعار آخر" لا تؤتمن على المدى القصير ولا البعيد مثل جبهة النصرة.
ولأن الحدود بالفعل تفتح على الجهتين، فقد تأكد ذلك عندما كشف عدد من القياديين الميدانيين للجيش الحر في درعا أن بعض تلك الأسلحة التي جاءت من دول معينة تم تسليمها في الأردن للجيش الحر ليتهم تهريبها عبر الحدود على امتداد سنوات الصراع وقعت في النهاية في أيدي جبهة النصرة في سوريا، والتي قامت بتهريب جزء منها- على مراحل- عودة إلى الأردن، لتصل إلى أيد "صديقة" ولكن لجبهة النصرة هذه المرة، وداخل الأردن، لتتجمع ببطء في انتظار "إشعار آخر".
ولتكتمل المفارقة فإن عدداً لا بأس به من مقاتلي المعارضة السورية "المعتدلة" والذين تم تدريبهم على أيدي خبراء أمريكان في الأردن والذين تم تهريبهم إلى سوريا للقتال مع الجيش الحر انتقلوا مع الوقت إلى المنظمات الأكثر تشدداً لأنها أفضل تسليحاً وتدريباً وأداءاً من الناحية العسكرية، مثل جبهة النصرة، لينتهي بعض منهم إلى القتال إلى جانب داعش. وينطبق ذلك على مئات الشبان الأردنيين الذين تم غض الطرف عن تسللهم إلى سوريا للقتال إلى جانب الفصائل المعارضة، لينتهي معظمهم إلى القتال مع داعش والنصرة.
ورغم العداء الشديد والتنافس بين داعش والنصرة إلا أنهما يسبحان في فضاء عقائدي واحد هو السلفية الجهادية، ولا توجد حدود فاصلة بينهما إلا بالتطبيق السياسي والتنافس على الجمهور، وطالما شهد التنظيمان انتقالات متبادلة بين أعضائهما، بل وقاتلا سوية في مناطق مثل القلمون رغم أنهما كانا يتقاتلان بشراسة في مكان آخر. وتقول روايات أن الاجتياح الداعشي الأخير لمخيم اليرموك تم بتسهيل من جبهة النصرة. وهكذا فإن ظهور داعش على الحدود الأردنية هو مسألة وقت فقط، سواء بانتقال تنظيمات بكاملها للولاء لداعش أو بتحول دراماتيكي غير مستحيل يعلن فيه تنظيما داعش والنصرة الوحدة أو التنسيق بقرارات ميدانية، دون اعتبار لآراء منظري التيار السلفي الجهادي المتواجدين في عمان والذين يعتقد الأردن الرسمي أنهم يمكنه عبرهم إدارة الخطر السلفي.
ولا شك أن النصرة وداعش وغيرها من التنظيمات المتشددة تستفيد من حاجة قطاعات سورية واسعة للحماية من بطش النظام السوري، ولا شك أن عامل الدعم الخارجي مكمّل وليس أساسي، ولكن من وجهة نظر أردنية فإن ما يجري من تنام وتمدد لهذه التنظيمات في جنوب سوريا يشكل خطراً على أمن الأردن. وبالمحصلة فإن ما يقوم به الأردن الرسمي بالذات يشكل على المدى المتوسط والبعيد خطراً على أمن الأردن، سواء بإخراج مارد التنظيمات الجهادية من قمقمه بمحاذاة الحدود أو بالتسبب غير المباشر في تراكم الأسلحة الخطرة داخل الأردن.
وللتدليل على مستوى الخطر فإن مسألة الطيار الأردني معاذ الكساسبة كشفت عن وجود نواة صلبة لا يستهان بها لداعش في الأردن رغم قوة الرأي العام المعارض لها والذي تعاطف بشكل إنساني مع الكساسبة. الأهم أن بعض قادة داعش الأردنيين الذين خرجوا من الأردن بعلم السلطات الأردنية "المختصة" ويتواجدون في الرقة بالذات أعلنوا تأييدهم قتل الطيار الذي وصفوه بأنه "مرتد".
المشكلة أن "السلطات المختصة" في الأردن ما تزال تسمح بتدفق السلاح والمقاتلين إلى سوريا، وإن كان ذلك بوتائر مختلفة، وهو ما يعني أن الخطر يتراكم. وإذا كان الأردن تجنب أية أحداث أمنية كبرى طيلة الفترة الماضية فذلك لأنه لم يتم استهدافه، وليس لأن السياسة الرسمية الأردنية ناجحة في التعامل مع التنظيمات الجهادية.
هكذا فإن الخشية من داعش والتنظيمات المتشددة لا تأتي أبداً من السيطرة على معبر نصيب، ولكن عبر مئات الممرات غير النظامية الممتدة عبر الحدود الأردنية السورية والتي لا يمكن ضبطها بشكل كامل مهما تشدد الجيش الأردني في المراقبة، إضافة إلى وجود عدد لا يستهان به من مؤيدي داعش والنصرة داخل الأردن بعضهم حارب سابقاً في أفغانستان أو العراق أو سوريا، مع وجود كميات سلاح يمكنهم الوصول إليها لا يمكن تقدير خطرها أو أعدادها أو أنواعها بدقة. هذا لا ينفي بالطبع وجود قلق حقيقي من حصول عمليات من نوع إطلاق قذائف أو صواريخ من المناطق الحدودية بشكل انتقامي من قبل داعش أو النصرة باتجاه القرى والمدن الأردنية المتاخمة للحدود والتي يقطنها عشرات آلاف الأردنيين.