نظام العسكرية يعني ألا تكون إنسانا، أن تكون بلا إرادة بلا قرار بلا كرامة، أن تتحول إلى آلة صماء وظيفتها الطاعة العمياء وتنفيذ الأوامر، أن تمنح حريتك للقائد يتصرف فيها كما يشاء، في العسكرية يتساوى أن تقتل مسالما ذا رأي أو أن تقتل معتديا غازيا؛ لأنك في جميع الأحوال ممنوع أن تتساءل عن حكمة أوامر القائد، إنما نفذ فقط ولا تناقش.
يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع
الاستبداد: "من أكبر مصائب الأمم وأهم معائب الإنسانية نظام الجندية الجبرية العمومية، حتى ربما يصح أن يقال إن مخترع هذه الجندية لو كان هو الشيطان فقد انتقم من آدم في أولاده أعظم ما يمكنه أن ينتقم، الجندية تفسد أخلاق الأمة فتعلمها الشراسة والطاعة العمياء والاتكال، وتميت النشاط وفكرة الاستقلال، وتكلف الأمة الإنفاق الذي لا يطاق، وكل ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشؤوم".
برر الإنسان اختراع نظام الجندية بالحاجة إلى وجود جيش قوي يحمي البلاد ويتصدى لأعداء الوطن، فلا بد داخل هذا الجيش من وحدة الكلمة وضبط الصف، لكن الدواء إذا أفرط في استعماله ربما قتل المريض، وهذا ما يحدث مع نظام الجندية الذي يفترض أنه مفيد في معالجة حالات استثنائية أوقات الحروب والأخطار لا تمثل أصل العلاقات الإنسانية، لكن هذه المعاني تطرفت، فتضخم نظام الجندية ليتفشى في مفاصل الحياة كلها، وليصبح أصل العلاقة بين الحاكم والمحكوم الانضباط والطاعة العمياء وتجريم حرية الرأي، والحجة حاضرة دائما بسحق أعداء الوطن وحماية مصالحه العليا.
من الصعب على من يتربى في الأجواء العسكرية أن يكون قادرا على إدارة حياة طبيعية قوامها الحوار والتفاهم؛ لأن الشخصية وحدة واحدة، فلا يستطيع صاحبها الفصل بين علاقته بجنوده في معسكر التدريب أو علاقته بأبنائه في البيت، كلها علاقات قائمة على صرامة الأوامر ووحدانية الرأي.
الشخصية العسكرية بطبيعتها غير مؤهلة لقيادة الحياة المدنية، فالأخيرة تقتضي سعة الصدر وحق الفهم والتساؤل وثقافة الحوار وقبول الآراء الأخرى والتداول السلمي للسلطة والمراجعة والمحاسبة، وكل هذه المعاني غير حاضرة في المؤسسة العسكرية، لذلك في المجتمعات الراشدة تكون المؤسسة العسكرية مقودة لا قائدة، منفذة لا مقررة، لا تتجاوز سقفها ولا تتغول خارج جدرانها، وهي خاضعة للرقابة والتدقيق، إن الفرق بين أن يحكم العسكر أو أن يحكم الشعب هو تماما مثل أن يحكم الديناصور بعضلاته أو أن يحكم الإنسان بعقله.
تدفع الشعوب أثمانا باهظة بتضخم مؤسسة الجيش وتحولها إلى صنم كبير تقدم على مذبحه قرابين خيرات البلاد لتسليحه ونفقاته، وفي ظل تخصيص النفقات الهائلة لميزانية الجيش من جهة وتقديس هذا الجيش من جهة أخرى، كونه حامي حمى الديار، وابتعاده عن آليات المحاسبة الشعبية، وانعزاله على نفسه يصبح من الصعب منع تكون طبقة من المتنفذين أصحاب المصالح التجارية داخل مؤسسة الجيش، ويتضخم نفوذ هذه الطبقة ليغزو الوطن كله وتتحكم في مفاصله، كل هذا يتم وسط غياب الرقابة والمساءلة، فمن ذا الذي يجرؤ على التشكيك في وطنية الجيش الذي يعد العدة لسحق أعداء الوطن إلا خائن مأجور!
فكرة الصنم تتلخص في توقف وظيفة الفكرة التي كانت مبرر وجودها وبقاء صورتها، وهذا ما يحدث مع نظام العسكرية؛ إذ إن الحروب بين الجيوش النظامية في تراجع من العالم مع إفساح المجال للحروب غير المباشرة والمواجهات الاقتصادية والسياسية، ورغم ما يقتضيه هذا من تخفيض حجم الجيش، إلا أن المؤسسة العسكرية لا تزال تحافظ على كيان متضخم وتستنزف ميزانيات الشعوب فيما لو وجه إلى مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية لكان خيرا وأفضل، لكن الطبقة المتنفذة داخل الجيش تقاتل في سبيل المحافظة على مصالحها الشخصية وامتيازاتها وترفض أي تقليص لحجم نفوذها أو احتواء يخضعها لسلطان المساءلة الشعبية.
لقد تحول الجيش إلى صنم كبير تقدم إليه قرابين الأموال والطاعة، ويمنع قيام حياة تعددية مدنية طبيعية، رغم أن العائد من وجوده محدود فجوهر الصراعات الإنسانية لم يعد عسكريا، بل صار من الممكن الانتصار، وتبوأ موقعا محترما بين الأمم بوسائل القوة الناعمة متمثلة في الثقافة والاقتصاد والسياسة.
عدم أهلية الشخصية العسكرية لقيادة الحياة المدنية لا يلغيه بطولة الجيش وانتصاراته، إن مهارة الطبيب في جراحته لا يعطيه الحق في وضع مخطط هندسي لإنشاء مدينة، من أكبر مشكلات مجتمعاتنا العربية الخلط بين التضحية والكفاءة، ما يجعل من بلادنا بلاد الأصنام بجدارة، فيكفي أن تسجل لأحدهم بطولة حربية حتى نعطيه صلاحية مطلقة، ليفعل ما يشاء ونرفعه عن المساءلة والمحاسبة، فإذا انتقده أحد هاجمناه بالقول: من أنت حتى تزاود على أصحاب البطولة والشرف! إنك لم تفعل مثلهم فلا يحق لك الحديث عنهم!
البطولة تعني البطولة وحسب، ولا تعني كفاءة الإدارة وعصمة آراء صاحبها وقراراته، لذلك فإن إثبات الجدارة في المواجهة العسكرية لا يمنح صاحبه تفويضا مفتوحا للتحكم في الشعب بعد ذلك واستعباده، لقد تفطن الشعب الإنجليزي لهذه الحكمة حين عزل ونسون تشرشل وهو في أوج انتصاراته، لأن الناس قد علموا أن انتصاره في زمن الحرب لا يقتضي كفاءته في زمن السلم بالضرورة.
من الضروري قصقصة أجنحة العسكر وضمان عدم تجاوزه لوظيفته المحددة في قتال العدو الخارجي، لأن العسكري إذا انتهى من حرب الأعداء الخارجيين وجد في صدره فراغا فسعى لإشغاله بمعارك داخلية، إن العسكري يريد أن ينتصر دائما، ومفهوم الانتصار في عقله لا يكون إلا بسحق العدو، فإن لم يكن العدو موجودا سعى لخلقه ليشعر بنشوة سحقه كما في فيلم البريء المصري الذي يغسل فيه القائد أدمغة جنوده بمحاربة أعداء الوطن، بينما لا يوجد أعداء سوى مجموعة من المعتقلين أصحاب الرأي والفكر.
لقد كادت الشعوب العربية ذات يوم قريب أن تسجد لمقاتلي منظمة
حزب الله انبهارا ببطولاتهم وانتصاراتهم على إسرائيل، لكن لما وضعت الحرب مع إسرائيل أوزارها رأينا ذات المقاتلين الأبطال يقتلون ويفسدون في حرب طائفية منتنة، لقد انتابت الحيرة كثيرين منا للوهلة الأولى وكذبنا الأخبار، إذ كيف يعقل أن ذلك المقاتل البطل الذي أرغم أنف إسرائيل في التراب هو ذاته الذي يقاتل اليوم إلى جوار نظام مجرم مستبد بحق شعبه! لكن الغرابة تزول إذا عرفنا أن العقلية العسكرية واحدة لا تتجزأ، وأن البطولة لا تعني أكثر من البطولة، وقد كانت كراهيتنا لإسرائيل حجابا لنا عن رؤية الحقيقة كاملة، فلما حيدت إسرائيل رأينا المرض بكل تجلياته.
مشكلة حزب الله ذاتها تنطبق على الجماعات المسلحة عموما، لذلك فإن التحدي الحقيقي في سوريا ليس في انتصار المعارضة المسلحة على بشار، بل في مدى قدرتها على تأسيس حياة مدنية تصون الحريات وحقوق الإنسان في مرحلة ما بعد الأسد، إن نظام العسكرية كله عبء على الإنسانية سواء تمثل في الجيوش الرسمية أو في الجماعات المسلحة، ومشكلتنا لا تحل باستبدال عسكر بعسكر، بل بتحرير الفكر الإنساني من هذه المنظومة بأسرها وتأسيس حياة يحكمها العقل لا العضلات، الحرية لا العبودية.
إن بقاء هيمنة المؤسسة العسكرية يعني أن عصر الإنسان لم يولد بعد، وأن رسالة الأنبياء، المتمثلة في أن يقوم الناس بالقسط، وأن يجتمعوا على كلمة سواء، دون إكراه واستعباد واتخاذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، لا تزال في انتظار التحقيق.