يبدو منطقياً القول بأن حركات الإحياء الديني ذات نزعة طائفية في جوهرها، كما تدل على ذلك تجربة الحركة البروتستانتية التي خرجت داعية إلى العودة إلى أصول الدين، ومعالجة ما رأته من «البدع» والانحرافات في الكنيسة. إلا أن بروزها خلق ردة فعل معاكسة من قبل «المحافظين» والمتمسكين بتراث الكنيسة، خيره وشره، مما خلق الانقسام الطائفي والحروب الدينية التي استمرت لعقود.
وبنفس القدر، فإن الحركة
الوهابية انطلقت من دعوات مماثلة لاطراح البدع والعودة إلى المنابع الصحيحة لأصول الدين في الكتاب وصحيح السنة، ولكنها بدورها انتهت إلى توجهات طائفية بسبب المقاومة الشديدة من حراس القديم، وكذلك بسبب تنطع بعض دعاتها.
وكنت قد أشرت في بعض كتبي إلى أن الطائفة هي نهاية في المطاف دعوة عالمية تقر بهزيمتها وتنطوي على نفسها. وكانت الإشارة وقتها إلى الحركة المهدية في السودان، التي بدأت مبشرة بنهاية العالم، وتوحيد كل المسلمين تحت راية المهدي المنتظر المفوض سماوياً. ولكنها تحولت بعد هزيمة مشروعها إلى طائفة منغلقة على ذاتها، مدافعة عن كيان المؤمنين بها برغم سقوط أطروحتها الأساس. ونظير ذلك الحركة الشيعية التي قامت على أطروحة توحيد المسلمين تحت قيادة رشيدة واحدة، ولكنها انتبذت لها بعد فشل المشروع مكاناً شرقياً تندب فيه ذلك الفشل. وقد ثنت، في هذا الإطار الاعتذاري، إلى ابتداع أطروحات ثيولوجية لتبرير الفشل السياسي، وأنشأت هوية «دينية» جديدة منغلقة على نفسها على أساس هذه الأطروحات.
ولكن المدهش هو أن الحركات الإسلامية قاومت المنحى الطائفي في مبتدأ أمرها. على سبيل المثال، أيد الإمام حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين، مبادرة التقريب بين المذاهب التي انطلقت عام 1947، وساهم في الحوار السني الشيعي. أيد الإخوان كذلك ثورة 1948 في اليمن، التي قادها الإصلاحيون الزيديون، وساهم فيها أحد قيادات الحركة، الجزائري الفضيل الورتلاني. ولعل تلك المساهمة في الثورة اليمنية، فوق كل عمل آخر نسب إلى الإخوان، هي ما أدى إلى قتل البنا في عام 1949.
بنفس القدر، ابتعد حزب الدعوة الشيعي عند نشأته على يد الشيخ محمد باقر الصدر عن التعصب الطائفي، وكان كل الإسلاميين يقرأون كتابات الصدر، بينما كان الشيعة يقرأون كتاب سيد قطب والمودودي. وقد جمعت أول حركة إسلامية حديثة في إيران، وهي حركة تحرير إيران بقيادة مهدي بازرقان، في صفوفها الشيعة والسنة. وقد رحبت معظم الحركات الإسلامية السنية بالثورة الإسلامية في إيران، وكان من سبب نقمة دول الخليج على الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي محاولاته لدمج إيران في المنظومة الإقليمية.
ولكن هذا لم يمنع الخطاب الطائفي من التسرب إلى مقولات الحركات الإسلامية من شيعية وسنية، خاصة في ظل تصاعد الاستقطاب الطائفي وحروب المنطقة الساخنة والباردة. ذلك أنه برغم أن حركات الإحياء الإسلامي الحديثة تمثل ثورة في الفهم التقليدي للإسلام، إن لم تكن ثورة عليه، إلا أنها تستمد شرعية طرحها من العودة إلى «الأصول»، أو النصوص القديمة. على سبيل المثال، تمثل نظرية «ولاية الفقيه» التي طرحها الإمام الخميني إلغاءً فعلياً لفكرة الإمامة الشيعية والاختيار الإلهي، والعودة إلى الموقف السني القائل بانتخاب الإمام على أساس مؤهلاته. ولكن هذا الخروج الكامل على أسس المذهب الشيعي صاحبه خطاب متمترس طائفياً، ربما كتغطية. يصعد هذا من الإدانة للتاريخ الإسلامي، ويركز على نقاط الخلاف، خاصة بعد الحرب مع العراق والحاجة إلى تجييش الشباب للقتال.
وقد زاد من تعقيد الأمور مساعي المؤسسة الدينية الشيعية للترويج للمذهب في الأوساط السنية، مستخدمة الموارد المالية السخية التي تتحكم فيها هذه المؤسسة وإمكانيات الدولة الإيرانية المالية والدعائية. وهذه استراتيجية تعمق الخلاف وتجدده ببذر بذور الشقاق في مجتمعات كانت منسجمة دينياً. كذلك فإن الدعاية للمذهب تحيي السجالات المندثرة التي ينبغي تجاوزها، كما نرى في الأبواق الإعلامية المتكاثرة التي تجتر على مدار الساعة، وبصورة تثير الغثيان، خلافات العصور الماضية، وتروج لخطاب البغضاء.
تأثر الخطاب السني بدوره بصعود السلفية المتعصبة، وبكتابات ذات منزع طائفي، كما وجدت العداوات التاريخية بين الكيانات
الطائفية المتجاورة في مناطق بعينها ترجمة جديدة في صراعات حول السلطة والموارد. ساهمت الدعايات السياسية كذلك أثناء الحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينات في تأجيج هذه النزعات الطائفية، وزاد الأمر سوءاً بعد غزو العراق ثم الحرب السورية.
ولم تكن النزعات القومية التي أشرنا إليها سابقاً بعيدة عن هذا الاستقطاب، كما شهدنا في سعي إيران والسعودية لاستخدام التجييش الطائفي في صراعاتها السياسية. ولم تكن الحركات الإسلامية بعيدة عن الاستقطاب القومي، كما أسلفنا، حيث نجد الحركات السنية والشيعية على حد سواء، تلبس الجلباب القومي، بل كثيراً ما تنقسم في البلد الواحد على أسس جهوية أو سياسية-مذهبية أو حتى شخصية (اتباعاً لهذا الزعيم أو ذاك).
وهذا يعيدنا إلى نقطة المبتدأ، وهي أن الإحياء الإسلامي يتكون من شقين: الأول ديني-أخلاقي، والثاني سياسي. ويسعى الشق الديني-الأخلاقي إلى العودة إلى «الأصول» ليس فقط لمقارعة «البدع»، بل كذلك للتخفف مما يتضارب مع متطلبات الحداثة من تزيد وإضافات وأعباء فرضها البشر على أنفسهم مثل رهبانية النصارى التي ابتدعوها ولم يكتبها الله عليهم. وهذا هو جوهر الدين الإسلامي الذي أتى ليجعل الآلهة إلهاً واحداً، ويخلص المشركين من خرافاتهم، وكذلك ليضع عن أهل الكتاب أعباء إضافية، بعضها فرضت عليها كعقوبات إلهية، وبعضها أثقلوا بها كواهلهم ابتداءً. من هنا كانت هذه نقطة التقاء، إذ ليس هناك خلاف بين المسلمين حول الإمام علي أو الحسن والحسين وزيد العابدين أو علي الرضا. وإنما جاءت الخلافات بعد ذلك. ولهذا كان التوجه الفطري للحركات الإحيائية الحديثة هو التقارب.
إلا أن هناك عقبات نشأت من جانبين. الجانب الأول هو أن الطائفية قد تجذرت في الوعي الديني للمسلمين، بحيث أن المرجعية أصبحت لمصادر متأخرة جسدت الخلاف. فعند السنة، استندت الإحيائية إلى كتابات ابن تيمية وتلاميذه والحنابلة ومحمد بن عبدالوهاب وأتباعه. أما عند الشيعة، فقد أصبحت المرجعية في الغالب (وياللمفارقة!) هي كتابات عصر «الغيبة»، وهي كتابات لا تستند لمرجعية الأئمة إلا بصورة غير مباشرة، لأنها أساساً جاءت لتفسير الغيبة والتنظير لها.
تداخلت هذه النزعة مع العقبة الثانية، وهي التسييس، وهو ليس بمشكلة في حد ذاته، لأنه لا انفكاك عنه. ولكن الإشكال هو التطرف والتسييس المخل بالمبدئية، لأن أساس الدين هو الصدق والمبدئية. وقد كان التطرف ولا يزال هو آفة السياسة الشرعية، كما شهدنا في الخروج على الإمام علي تنطعاً حينما رضي التحكيم حقناً لدماء المسلمين، والإنكار على الإمام الحسن لاختياره الصلح والسلم على الحرب، والإنكار على الإمام زيد لرفضه التنطع والغلو في الدين. وفي العصر الحديث، شهدنا كذلك تقديم التنازلات للعوام والغوغاء والعناصر المتطرفة على حساب العقلانية والصدق، وذلك طلباً للكسب السياسي العاجل. وهكذا أصبح التطرف هو الذي يتحكم في الساحة.
إذن كما ذكرنا في الحلقة السابقة، فإن أسلمة الإسلاميين في هذا المقام تتطلب نبذ التطرف والانسياق وراء الغوغاء، وأن تكون القيادة للعمل لا للجهل، وللعقل لا للتطرف واتباع الهوى.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)