قبل الوزارة...
يقف أحمد زكي، المحامي مصطفى خلف في فيلم ضد الحكومة للمخرج الراحل عاطف الطيب، في قاعة محكمة يترافع عن ذوي ضحايا حادثة سير أوقعت عشرين قتيلا من الأطفال كانوا في رحلة مدرسية دهسهم قطار:
"إنها ليست قضية مدرسة أو مجموعة من التلاميذ أوقعهم حظهم التعيس في قبضة سائق متهور أو صدفة عمياء أودت بحياة عشرين فتى وفتاة من أنبه أبنائنا. القضية أيها السادة أخطر من ذلك بكثير. إنها قضية بلد بكامله نخر السوس أعمدته وأوشك بنيانه على السقوط. لو وقع مثل هذا الحادث في أي مكان في العالم يحترم فيه الإنسان لاستقالت الحكومة على الفور، ولحوكمت وأدينت لقاء إهمالها".
في المملكة
المغربية..
داخل بلاطو تصوير برنامج تلفزيوني حواري بالقناة الأولى للتلفزيون المغربي، يجلس وزير التجهيز والنقل واللوجيستيك في مواجهة محاوريه. وعندما أثيرت مسؤولية الوزارة والحكومة على وفاة أكثر من خمسة وثلاثين شخصا احتراقا في حادثة سير مفجعة بمقربة من مدينة طانطان، كان نصفهم أطفالا شاركوا في بطولة رياضية مدرسية، لم يجد الوزير غير هذه الكلمات: " أعتقد أن القضية بسيطة. ليس المهم عدد السنوات التي يقضيها المرء في الوزارة بل إنجازاته... إذا ثبت أن وزير التجهيز والنقل يتحمل المسؤولية سنتخذ قرار تحمل المسؤولية... نحن نشتغل في هذا البلد ليس فقط بمنطق كم حُزْنا من الأصوات الانتخابية بل بمنطق بناء دستوري ومؤسساتي بالبلاد، حيث يرأس جلالة الملك الدولة وتوجهاتها الماكرو اقتصادية وتقوم الحكومة بالتدبير.. وإذا ارتأى جلالة الملك أن السيد الرباح يتحمل المسؤولية يمكنه إعفاءنا كما عيَّننا، ولا أرى في ذلك حرجا".
في اجتماع الحكومة الذي تلا الحادث، أكد رئيس الحكومة أن التحقيق في الفاجعة التي أودت بحياة عشرات المواطنين جاء "بأمر مولوي"، مشددا على أنه "يجب أن يذهب إلى أبعد مدى، وأن تُنشَر نتائجه في أقرب وقت، ليتحمل كل واحد مسؤوليته في ما وقع... تحدث الناس عن تحمل المسؤولية، نحن سوف نتحمل مسؤوليتنا كاملة في حالة ما إذا أثبتت التحريات والتحقيقات الجارية الآن أن لوزير، مهما كان في هذه الحكومة، مسؤولية، وكان يحتاج أن يقدم استقالته فسوف يفعل...إذا كان يجب أن تقدم الحكومة استقالتها فسوف تفعل، حتى لو تعلق الأمر بوفاة مواطن واحد فبالأحرى أن يكون هنالك ما يقارب أربعين ضحية، منهم أطفال صغار في مقتبل العمر، ويموتون بهذه الطريقة الشنيعة... من غير المعقول ومن غير الممكن أن نمر كأن لم يكن شيئا ".
انتهى التحقيق إلى أن "المتسبب في الحادث هو سائق الحافلة، الذي فقد السيطرة على السياقة، وخرج عن مساره، وانحرف نحو الشاحنة، التي كانت قادمة من الاتجاه المعاكس، فاصطدم بها بقوة. وبناء على المعطيات والأبحاث، فإن النيابة العامة قررت حفظ المسطرة لوفاة السائقين مرتكبي الحادثة، في حين سيتم إشعار الضحايا الناجين، وكذا ذوي حقوق الهالكين بالقرار المتخذ، حتى يتمكنوا من تقديم طلباتهم المدنية أمام الجهة القضائية المختصة".
سكت الجميع عن الكلام المباح، وكأنهم كانوا ينتظرون من التحقيق أن يثبت أن الوزير المغربي أو وزيره المنتدب في النقل أو رئيسه في الحكومة كانوا يسوقون الحافلة أو الشاحنة، وتسببا في الاصطدام حتى يعلن أحدهم مسؤوليته عن الحادث. لم ينتبهوا إلى أن مسؤولية الحكومة ثابتة في أنها لم توفق بداية في تعيين خلف لوزير الشباب والرياضة المعفى من منصبه ذات فضيحة كروية عالمية لم تسبب في الواقع مقتل أحد، وظل المنصب شاغرا منذ أشهر إلا من تدبير مفوض لوزير التعمير وإعداد التراب الوطني.
والحال أن الأطفال المشاركين في البطولة المدرسية هم في عهدة الوزارة ومن خلالها الحكومة، وعدم وصولهم آمنين إلى ديارهم مسؤولية ثابتة للدولة المغربية. كما أن سماح وزارة النقل لشغل خط طرقي من الرباط العاصمة إلى مدينة العيون بالصحراء، بمسافة تفوق 1250 كيلومترا، بسائقين مناوبين يطرح السؤال عريضا حول المسؤولية الحكومية في ما وقع.
أما الفشل في محاربة تهريب النفط من الصحراء إلى الداخل المغربي، بالرغم من أن نتائج التحقيق لم تتحدث عن الأمر بعد أن استبعدته وزارة الداخلية في بيان لها مباشرة بعد الحادث، فهو دليل واضح على فشل التدبير الحكومي بما يترتب عنه من مسؤولية مباشرة.
عندما تثبت المسؤولية الجنائية أو التقصير في أداء أي وزير، فالاستقالة ليست المطلوب، بل المحاكمة. في النظم الديمقراطية، الاستقالة مجرد تعبير عن مسؤولية سياسية. لكنه سحر
الكرسي.
قبل الوزارة...
يواصل أحمد زكي (المحامي مصطفى خلف في فيلم ضد الحكومة) مرافعته أمام المحكمة: "أيها السادة، الفرصة ما زالت في أيدينا ويجب ألا نفلتها، وطالما أن السادة الوزراء المسؤولين عن النقل والتعليم وخلافه ممن لهم علاقة بهذا الحادث المروع، الذي نحن بصدده، لم يهتز لهم جفن ولم يقدموا استقالاتهم حتى الآن، فأنا أختصمهم بصفتهم وبأسمائهم، وأطالبهم بالمثول أمام عدالتكم كمتهمين والتحقيق معهم".
في المملكة المغربية..
خبر عاجل..
يوم 4 سبتمبر2012: لقي 42 شخصا مصرعهم، وأصيب 24 آخرون بجروح، في حادث انقلاب حافلة للركاب وسقوطها في منحدر تيزي نتيشكا. خلص التحقيق إلى أن العامل البشري والحالة المهترئة للحافلة كان سببا في الحادثة.
داخل قبة البرلمان أفصح رئيس الحكومة عبد الإله ابن
كيران، أنه فكر رفقة الحكومة في تقديم الاستقالة بعد الحادث، وتساءل : ألا يقتضي مثل هذا الحادث من الحكومة أن تستقيل؟ قبل أن يشير إلى أنه طرح هذا الأمر على الوزراء بعد أن آلمه الحادث المشؤوم. كان ذلك أشهرا معدودة بعد تعيين الحكومة الجديدة.
خبر..
يوم 10 يوليو 2014: انهيار ثلاث عمارات بحي بورغون بمدينة الدار البيضاء. بعد أيام من التنقيب تحت الانقاض، بلغت الحصيلة النهائية ما يقارب خمسة وعشرين قتيلا. خلص التحقيق إلى أن أحد العمال المشتغلين بتجديد شقة بالعمارة كان السبب في الحادث.
حضر الملك، واختفى الوزراء عن الأنظار، ولم يكلفوا أنفسهم عناء تفقد مكان الحادث. وتبادل وزيرا السكنى من جهة والتعمير وإعداد التراب من جهة أخرى مسؤولية الاختصاص في القضية.
لم يتحدث أحد عن تفكيره في تقديم الاستقالة تطبيقا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، كما جاء بها الدستور المغربي الجديد.
مجرد خبر..
21 نوفمبر 2014: لقي ما يقارب الأربعين شخصا حتفهم جراء عواصف عاتية وسيول جارفة ضربت جنوبي المغرب.
تحدثت الحكومة عن "أمطار الخير التي مكنت من ملء السدود، وما سيكون لها من أحسن الأثر على الموسم الفلاحي وفرشتنا المائية". صرح وزير الداخلية بأن "ارتفاع حصيلة القتلى، سببه عدم استجابة السائقين للتحذيرات". وأعلن وزير التجهيز أنه " لم تسقط أي قنطرة جديدة" وأخلى بذلك مسؤولية الحكومة، بالرغم من أن صيانة القناطر القديمة أيضا مسؤولية حكومية. في الأخير، أقرت السلطة التشريعية لجنة تحقيق برلمانية في الموضوع لم تنجز سطرا واحدا من تقريرها، وانتهى بها المطاف إلى الحل بعد استقالة رئيسها.
لم يتحدث أحد عن تفكيره في تقديم الاستقالة، تطبيقا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، كما جاء بها الدستور المغربي الجديد.
خبر مكرور...
10 أبريل 2015: احتراق حافلة لنقل الركاب بالقرب من مدينة طانطان بعد حادث تصادم مع شاحنة يخلف ما يقارب خمسة وثلاثين قتيلا، نصفهم أطفال، شاركوا في بطولة مدرسية... والبقية تعرفونها.
قبل الوزارة في المملكة المغربية..
قبل الاستوزار بشهور، كان وزراء الحكومة الحالية، خصوصا وزراء حزب العدالة والتنمية، من أشد المعارضين لإنشاء خط القطار فائق السرعة للربط بين طنجة والدار البيضاء، من منطلق أن ذلك تأكيد لمغربين يسيران بسرعتين مختلفتين.
وبالنظر إلى كلفة المشروع، كان "النضال" منصبا على تحويل تلك الأموال إلى تحسين البنية التحتية لما يسمى ب"المغرب غير النافع" وفي إطاره تندرج مدن الجنوب التي شهدت الفيضانات ومنحدر تيزي نتيشكا الذي يواصل حصد الأرواح.
قبل الاستوزار، كان الوزراء ونواب الحزب في البرلمان ضد تنظيم مهرجان موازين، وبعده صار المهرجان عنوان الرخاء الذي يشهده المغرب، فالبطن عندما تشبع تقول للرأس غني، كما يقول المثل المغربي، والعهدة على عبدا لله بوانو رئيس الفريق النيابي للحزب بالغرفة الأولى للبرلمان.
كثير من المواقف كانت قبل الاستوزار، وكثير من المرافعات ألقيت دفاعا عن الهوية ومصالح المواطن، وبعدها تغيرت لدرجة أن عبد العالي حامي الدين، وهو عضو قيادي في الحزب، دعا في ندوة قبل أيام إلى تجاوز توصيف الحزب بـ"الإسلامي" لأن هذا المصطلح مشحون بدلالات تجعل الخيارات السياسية لهذا الحزب مطبوعة بـصبغة طائفية.
بعد الوزارة...
لأن تعيينه في الحكومة كان نتاج تشابه في الأسماء، كان حلف يمين أحمد زكي، الوزير رأفت رستم في فيلم معالي الوزير للمخرج سمير سيف والمؤلف وحيد حامد، أن "أقسم بالله العظيم أن أحترم هذه الصدفة التي جعلتني وزيرا، وأن أحسن استغلالها، وأن أحافظ مخلصا على سلامة أقدامي وسلامة منصبي".
لم يخلف رأفت رستم وعده بعد أن فتح المنصب أمامه كل الأبواب، وترقى اجتماعيا وصارت له صولات وجولات تحكم خلالها في الرقاب ترقية وعقابا، وصار ضيفا على القنوات يشرح السياسات ويحلل القرارات. تغيرت الحكومات وظل رأفت رستم خالدا في منصبه لا تزحزحه كوارث أو تعديلات وزارية أو تشكيل حكومات. لقد دخل الرجل المزهو بشخصه دولة "الآمنين" ولن يخرج منها ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
لكن "ضميره" استيقظ فجأة، وصارت الكوابيس تطارده في نومه ويقظته. وحدها الليلة التي قضاها في الزنزانة خطأ جعلته ينام ملء جفونه، فذاك مكانه الطبيعي، بعد أن عاث في الأرض فسادا سرقة واختلاسا وتحرشا واستغلالا للنفوذ. مع الكوابيس المتكررة نعرف أن الوزير لم يكن غير مخبر لأمن الدولة لم يتورع عن كتابة تقرير أمني بزوجته المناضلة في موقف اعتبره بعد لقاء عابر معها سفالة ليس من بعدها سفالة. كما نعلم أن الوزير يملك حسابا بسويسرا بملايين الدولارات عائده من "حوافز وتعويضات".
يقول الوزير رأفت رستم في جلسة مكاشفة نادرة: "الشر، الورم الخبيث يبدأ صغيرا ثم يتوسع ودون إحساس منك يسيطر عليك. يصير الانحراف متعة، الشر مزاجا، السرقة "كيف" والسلطة إدمان... والنتيجة كوابيس وكوابيس". ويضيف الوزير " أنا عمري مكرهت حاجة في حياتي قد كلمة سابق ده. اذا بقيت سابق، بقيت ملطشة. القرود حتطنطط على ظهرك والذيابة حتنهشك. ولو سابوك لحالك بقيت منسي ومعزول... أفضل شيء الواحد يموت على كرسيه"، و " الحكام مبيعرفوش المرض النفسي يا عطية".
مشاهد ساقطة
في فيلم الراقصة والسياسي للمخرج نفسه ومؤلف فيلم معالي الوزير، يفشل الوزير عبد الحميد بيه (محمود قابيل) في السرير مع الراقصة سونيا (نبيلة عبيد)، والسبب؟
محمود بيه: "ما فيش عادي يعني، كل ما في الأمر أن السياسة بتهد الحيل. الواحد مبيبطلش تفكير ليل نهار. انت عارفة مشاكل البلد عويصة قد ايه"
وفي فيلم معالي الوزير، يفشل الوزير رأفت رستم على السرير ذاته مع زوجته فوقية (لبلبة).
فوقية: مالك يا رأفت؟
رأفت رستم: قلقان يا فوقية
فوقية: من إيه؟
رأفت رستم: من ايلي بيحصل في المنطقة، وقلقان على البلد... أنا بس عندي شوية إجهاد من الخطة
الخمسية..
فوقية: وزمايلك قلقانين زيك كده؟
سونيا: خلاص. ما دام بتهد الحيل سيبك منها، وارجع زي الأول.
عبد الحميد بيه: فات الوقت خلاص. بس بتتعوض. كفاية أنك ترفعي سماعة التلفون وتأمري، أمرك يتنفذ في الحال. تأشري على الورق تخلص كل حاجة. أخبارك في الجرايد كل يوم.. صرح، قرر، أصدر...
هذا حال الساسة في السينما. أما في الواقع فقد شهدت الحكومة المغربية حدثا سعيدا كان محل جدل طوال الأسابيع الماضية، ممثلا في خطبة وزير العلاقة مع البرلمان والمجتمع المدني بالوزيرة المنتدبة في التعليم العالي والبحث العلمي في سابقة تاريخية. ولم تكد تنتهي قصة الحب الحكومي حتى فاجأنا وزير الطاقة والمعادن بتشييد غرفة نوم بجانب مكتبه الوزاري جهزها بسرير.
وحده وزير التشغيل والشؤون الاجتماعية فهم الموضوع كله، ولم يجد من هدية للعمال المغاربة في عيدهم العالمي غير الحديث عن استمراره في عملية الرعي، التي مارسها صغيرا، مع استبداله الخرفان والماعز بالآدميين. لم ينطق الوزير كفرا بل الأمر مجرد تكريس لمفهوم الرعية في علاقة الحكام بالمحكومين. أما المواطنة فنحن عنها أبعد ما نكون في غياب مفهوم السيادة الشعبية، تماما كما أسس لها وزير التجهير والنقل واللوجستيك، وهو يجيب عن أسئلة محاوريه في برنامج تلفزيوني بالقناة الأولى المغربية، حين تحدث عن مسؤولية الحكومة في.....
انتهى الكلام.
باااااااااااع ...