يقول أستاذ علم الجريمة في جامعة كينت البريطانية سايمون كوت، في مقال نشرته مجلة "أتلانتك مونثلي"، إن الجهاديين يظهرون في الأفلام، التي تصنع في هوليوود ومراكز البحث المتخصصة في دراسات مكافحة
الإرهاب، أنهم أشخاص "غسلت أدمغتهم"، إلا أنه يرى أن الحقيقة هي خلاف ذلك.
ويقول الكاتب: "من كان يعرف أن فيلم (زولاندر) سيتفوق على فيلم (سيج/ الحصار) كأكثر فيلم دقيق حول الجهادية والإرهاب". فقد كتب فيلم "الحصار" لورنس رايت، الذي أصبح مؤلفا لأهم الكتب حول تنظيم القاعدة "البرج المهدد"، وتحدث فيه عن موجة من المذابح التي يرتكبها الجهاديون في نيويورك، وما يجري من مأساة إنسانية، مثل إعلان حالة الطوارئ، وسجن العرب الأمريكيين في المدينة. أما "زولاندر" فقد عرض في دور العرض بعد أسابيع من هجمات أيلول/ سبتمبر 2001.
ويشير كوث في مقاله، الذي اطلعت عليه "
عربي21"، إلى أنه بالمقارنة مع فيلم "الحصار"، يظل فيلم "زولاندر" كوميديا عن شخص معتوه تعرض لغسيل دماغ، كي يقوم بأعمال إرهاب دولي، دربته عليها منظمة إرهابية همجية.
ويرى الكاتب الفيلم تافها وفارغا مع أنه بدا أحيانا مثيرا للضحك. ولكن فكرة
غسيل الدماغ تشبه ما ظهر في التغطية المثيرة عن المجندين الغربيين في
تنظيم الدولة في العراق والشام، خاصة من أطلق عليه "الجهادي جون".
ويقول كوث: "انظر مثلا لحالة الفتيات الثلاث من شرق لندن اللاتي هربن من إنجلترا في شباط/ فبراير للانضمام للكيان الذي نصب لنفسه خلافة في سوريا. شميما بيغوم (15 عاما) وكديزة سلطانة (16 عاما) وأميرة عباسي (15 عاما) كن فتيات عاديات متحمسات حتى تمّ - كما قال رئيس الوزراء ديفيد كاميرون - تسميم عقولهن بجماعة الموت المرعبة".
وقامت صحيفة "ديلي ميل" بتقديم قصة مماثلة، ففي تقرير لها زعمت أن البنات تم "تدريبهن بطريقة شرسة عبر الإنترنت، وغسلت أدمغتهن وهن في غرف نومهن". ولاحظ التقرير أن كلا من بيغوم وسلطانة كانتا مستخدمتين دائمتين لـ"تويتر". وكانت بيغوم متابعة لعدد من حسابات مؤيدين لتنظيم الدولة، وهو ما أعطاها "فرصة لمشاهدة فيضان من الصور المريعة واللقطات". ونقلت الصحيفة عن شقيقة بيغوم قولها: "أحببناها وكانت طفلتنا وكانت فتاة راشدة، ويقوم تنظيم الدولة بتصيد الفتيات البريئات".
ويعلق كوت قائلا: "هذه الطريقة الطفولية في السرد هي ذاتها التي قدمها والدا أقصى محمود (20 عاما) من أسكتلندا، التي كانت محلا للتحقيق بوجود صلة بينها وبين الفتيات الثلاث، وقدم والداها توضيحهما الشخصي للطريقة التي تعرضت فيها ابنتهما للتشدد، فقد قالا: (قد تعتقد أن الجهاديين من تنظيم الدولة هم عائلتها الآن، ولكنهم ليسوا كذلك فهم يستخدمونها، لقد تم غسل دماغ ابنتنا وأوهموها). وكتبت حميرا باتل في صحيفة (الغارديان)، وهي نفسها طالبة من شرق لندن، حيث قدمت شرحا للطريقة التي تم فيها تجنيد الفتيات الثلاث، وقالت: (قد ضللهن أشخاص لا أخلاق لديهم، ووقعن في مصيدة فيروس ينتشر عبر الإنترنت، يقوم بغسل عقول النساء والرجال باسم
الدين)".
ويبين الكاتب أن فكرة تعرض الجهاديين لغسيل الدماغ، أو أنهم كانوا عرضة للتلاعب، ليست فكرة في الإعلام، ولكنها تبدو فكرة أساسية في معظم مبادرات مكافحة الإرهاب، التي يتم الترويج لها في العالم اليوم. فمركز محمد بن نايف للمناصحة والعناية في السعودية لا يستخدم عبارة "غسيل الدماغ"، إلا أنه يعطي حسا بهذا.
ويلفت التقرير إلى أن المركز قد أنشئ عام 2004، ويحاول إقناع الجهاديين بالتخلي عن أفكارهم المتشددة، ويفضل المركز الحديث عن المعتقلين في المركز بوصفهم المستفيدين من برنامجه المكثف وتصحيح المفاهيم الدينية، ويقدم المركز أيضا مناصحة نفسية، وينظم حصصا للكتابة الإبداعية والرسم، ويوفر مساعدة للاندماج في الحياة العامة بعد العلاج.
ويجد كوت أن نشاطات كهذه تعكس الرأي العام حول الجهاديين، وأنهم ضلوا وابتعدوا عن الدين الإسلامي الحقيقي، وأساءوا فهم واجباتهم الدينية، وعليه فيجب إعادة هذه الأرواح الضائعة إلى الطريق الصحيح.
ويشير التقرير إلى أحد طلاب الدكتوراة الذين أجروا تقييما لفلسفة وممارسات المركز، فقد قابل الباحث محمد المعاوي، وأخبر أحد مسؤولي المركز المعاوي، أن معظم المحتجزين فيه هم بحسب رأيه "بسطاء"، وهم شباب لا تتجاوز أعمارهم العشرين، ويقول إنهم "لا يملكون المعرفة والخبرة، ومن هنا فمن السهل على المتشددين استهدافهم، والتأثير على طريقتهم في التفكير". ويرى الموظف أن الحل لمشكلة التشدد هو نشر الإسلام "الصحيح"، الذي يعني به الرؤية السياسية والمحافظة التي تبناها المركز والدولة السعودية.
ويذكر الكاتب أن الباحثة المتخصصة في الإرهاب جيسكا ستيرن سجلت الرأي ذاته السائد بين موظفي المركز عام 2010، وذلك بعد زيارتها له. وقالت إن "مسؤولا سعوديا أخبر الوفد الزائر بأن أهم سبب للإرهاب هو الجهل بطبيعة الإسلام الحقيقي". ولاحظت ستيرن أن الفلسفة التي تقف وترشد جهود المركز "هي أن الجهاديين هم ضحايا وليسوا أشرارا، وهم في هذه الحالة بحاجة إلى مساعدة إرشادية، وهو رأي قد لا توافق عليه الكثير من الدول".
وينوه التقرير، الذي ترجمته "
عربي21"، إلى أنه في سياق سياسة مكافحة الإرهاب في الدول الغربية فإن المبادرة السعودية تبدو وكأنها "اختراع"، ولكن الخطاب الذي يحيط بها يعكس الخطاب الأمريكي المعادي لجماعات عبادة الشخصية "الكلت" في نهاية السبعينيات من القرن الماضي. فقد وجد الباحثون مع أنسون شيوب في دراستهم عن "التخويف من الكلت" فكرة "غسيل الدماغ". وشكلت عملية "إعادة البرمجة" مركزا في النشاطات المعادية لهذه الجماعات، بل وشرعت عملية اختطاف أفرادها لحمايتهم من الوقوع في حبالها الشيطانية.
وتذكر المجلة أن الباحث المشارك مع شيوب، ديفيد بروملي قال إن "فكرة الأسر"، التي نشرها المعادون للجماعات الكلتية صورت أعضاء الجماعات بأنهم مخدوعون وساذجون وأبرياء، وأنهم "تعرضوا لأساليب تخريبية طاغية".
وبحسب بروملي، فإن النشاطات المعادية للجماعات "الكلتية" اعتقدت أن إعادة برمجة أعضاء هذه الجماعات يمكن أن يحررهم من عقلية الرق التي يعيشون فيها، ويعيدهم مرة ثانية إلى الحياة الطبيعية، ويساعدهم على نبذ "الشخصية التي فرضتها الحركة عليهم"، ويعودوا لشخصياتهم الطبيعية، أو ما قبل انضمامهم للحركة.
ويرى كوت أن فكرة غسيل الدماغ التي يتعرض لها الإرهابي تعني أن انضمامه للجماعة لم يكن بناء على خيار حقيقي يقوم على أسباب عقلانية.
ويعتقد الكاتب أن فكرة غسيل دماغ الإرهابيين تخدم هدفا وتشرح وضعا دون تقديم الأسباب الحقيقية. فإن "أ" يصبح إرهابيا؛ لأن "ب" ترك أثرا سيئا عليه، كما يخدم هذا التفسير نزع الشرعية عن السبب الحقيقي، فهو تفسير يحتوي على تلميح عال في أخلاقيته ودقيق، وهو أن الإرهابي ينضم للجماعة الإرهابية ليس بناء على قرار واع متعقل، بل إنه يحدث بسبب تخطيط الآخرين لعملية الانضمام، والعملية تحدث دون معرفة الشخص الذي يتعرض للتجنيد. فالإرهابيون بهذا المعنى مصاصو دماء وأغبياء وأدوات تتلاعب بهم إرادة وخطط الآخرين الشريرة.
ومن هنا فإن كوث يجد أن الفكرة تنشر "أسطورة مطمئنة"، وهي أن جذور الإرهاب تقع بعيدا عن النظام
الأخلاقي المقصود، وتسمح للناس الاعتقاد بأن المشكلة لا تتعلق بالنصوص التي يجلونها، أو المؤسسات التي يحترمونها، ولا الثقافة المبجلة أو القيم والتطلعات العميقة التي تؤدي إلى إنتاج الإرهابيين. وتضع اللوم في ساحة غرباء ملعونين ممن يعيشون في الظل، ويستغلون الضعفاء وأصحاب العقول البسيطة.
ويرى الكاتب أن البحث الأكاديمي في الإرهاب لا يظهر وبشكل ساحق أن الإرهابيين بشكل عام ليسوا مجانين ولا أغبياء. ويظهر البحث أيضا أن من ينضمون للجماعات الإرهابية عادة ما يكون لديهم إيمان أنهم يقومون بالدفاع عما يرونه قضية عادلة، فهم ينضمون لأنهم يريدون أو يعتقدون أن ما يفعلوه صحيح.
ويفيد التقرير بأنه في حالة الجهاديين الغربيين أو من سيصبح منهم، فإن الكثير منهم، كما لاحظ سكوت أتران ومارك سيغمان، هم مجندون ذاتيون يتحولون من أنفسهم إلى التشدد بحثا عن أعمال عنف، قبل أن يصبحوا متشددين بدرجة كاملة، وينضموا للسلفية الجهادية2. وكما قال السفاح هانيبال ليكتر في رواية "صمت الحملان": "لا أحد جعلهم يفعلون هذا، فقط هو حدث لهم".
ويقول كوث إن الخطاب الثري الذي ينتج عندما يتم الحديث عن الإرهاب يأتي ممن يتعامل مع الإرهابيين بشكل جدي، وليس باعتبارهم مخدوعين، ولكنهم شخصيات مستقلة أخلاقيا، ممن يشعرون بجاذبية الحركة الإرهابية، ويسمحون لأنفسهم للتأثر برسالتها، ويضعون أنفسهم في خدمة المنظمة كونهم مجندين محتملين ومستعدين للتضحية بأنفسهم؛ دفاعا عن قضية الجماعة. وعليه ففهم هذا وليس فكرة "غسيل الدماغ" يعد البرنامج الأكثر إلحاحا وخطورة.
ويضيف الكاتب أن الإرهاب هو بشكل أساسي تعبير عن فشل أخلاقي لا فكري، وهو انتهاك لإنسانيتنا المشتركة وحرمة الحياة الإنسانية. وتقضي الحركات الإرهابية وقتا طويلا من أجل تبرير مستوى النهب والإجرام، الذي تمارسه أيديولوجيا. وتقدم نفسها كونها حامية للخير. ومن هنا فأهم ملمح من ملامح نزع التشدد هو الكشف عن هذا الضلال ومواجهة الإرهابيين بأفعالهم اللأنسانية. وواحدة من الطرق لفعل هذا هي وضعهم مباشرة مع الألم والمعاناة الإنسانية التي يطلقون العنان لها.
ويخلص الكاتب إلى أن هناك من يجد أن هذا هو عمل يشبه مواجهة المجرم للعدالة، وفي العادة لا يعترض الجناة الذي يقفون وجها لوجه أمام ضحاياهم. وقد ينجح هذا مع الإرهابيين، ولكن قبل ذلك علينا أن نمنحهم القدرات الأخلاقية والفكرية التي ننسبها لأنفسنا.