كتب ميرون رابوبورت: كان الحديث عن
النكبة في إسرائيل من المحرمات، والآن يحاول القادة الإسرائيليون والفلسطينيون الحديث عنها، كما لو كانت قضية حقوق مدنية وقد يكون ذلك ناجعا.
قبل أكثر من عقد شاركت في اجتماعات عادة ما تكون محبطة بين صحفيين إسرائيليين وصحفيين فلسطينيين. لم يتسن لنا بسبب الجدل المحتدم التوصل إلى أي تفاهم، وخاصة بشأن أكثر القضايا المتنازع عليها، ألا وهي مسألة اللاجئين الفلسطينيين. كان الفلسطينيون يفترضون كما لو أن ذلك كان مسلمة من المسلمات، أن الحل العادل لهذه القضية لابد أن يكون جزءاً من أي تسوية، بينما كان يراها الإسرائيليون مصدر تهديد لوجودهم.
ثم، حينما وصل النقاش بنا إلى نقطة ما، طرح صحفي فلسطيني من مواطني إسرائيل السؤال التالي: لماذا لا يسمح للفلسطينيين الذين اقتلعوا من قراهم في حرب عام 1948 ولكن بقوا داخل إسرائيل ببناء قراهم من جديد، إذا لم تكن مستوطنات جديدة قد أقيمت على أراضيها طوال هذه السنين؟ مؤكداً أن هؤلاء الفلسطينيين، على كل حال، هم الآن مواطنون إسرائيليون. فما كان من الصحفيين الإسرائيليين، الذين كانوا قبل دقائق معدودة فقط يقاتلون بشراسة ضد كل ما له علاقة بحق العودة من قريب أو بعيد، إلا أو وافقوا على الفكرة!
ربما كان
حق العودة للفلسطينيين من أكبر المحرمات في المجتمع اليهودي الإسرائيلي، وكان قرار اعتبار تهجير الفلسطينيين من قراهم وبلداتهم "أمراً واقعاً" قد صاغته السلطات الإسرائيلية في وقت مبكر، يعود إلى شهر حزيران (يونيو) من عام 1948، بعد أسابيع قليلة من إعلان إسرائيل نفسها دولة مستقلة، ولم يطرأ على ذلك أي تغيير منذ ذلك الوقت.
في شهر حزيران (يونيو) من عام 1948، كتب موشيه شاريت، أول وزير خارجية في دولة إسرائيل، في إشارة إلى الفلسطينيين الذين شردوا من بيوتهم قائلاً: “لقد وقع حدث رائع في تاريخ هذه الأرض، يفوق في روعته، إلى حد ما، حدث قيام دولة إسرائيل ذاته.” إذن، ما كان يمثل بالنسبة للفلسطينيين نكبة أو كارثة على المستوى الفردي والجماعي، يذكره الفلسطينيون بكل ألم وغضب حتى يومنا هذا، كان يعتبره الزعماء اليهود معجزة من المعجزات. يصعب على المرء تصور قراءتين للحدث أكثر تبايناً من ذلك.
الفلسطينيون المهجرون داخلياً
لقد راوغت إسرائيل منذ الأيام الأولى تهرباً من أي قرار أو مقترح يستهدف السماح لبعض أو كل اللاجئين الفلسطينيين الذين بلغ عددهم 750 ألف نسمة بالعودة إلى بيوتهم، داخل ما أصبح دولة إسرائيل المستقلة. ومنذ ذلك الحين، وعلى مر السنين، ما لبث أي ذكر لحق الفلسطينيين في العودة ينظر إليه داخل إسرائيل على أنه تهديد وجودي لها.
ولكن، وبينما ركز المجتمع الدولي، وحتى الفلسطينيون أنفسهم، على معاناة أولئك اللاجئين الذين أخرجوا من وطنهم تماماً، إلا أن قدراً أقل بكثير من الاهتمام انصب على اللاجئين الذين اقتلعوا من قراهم وبلداتهم، ولكنهم بطريقة ما تمكنوا من البقاء داخل حدود الدولة الجديدة.
قدر عدد هؤلاء الفلسطينيين "الذين هجروا داخلياً" في عام 1948 بما يقرب من 35 ألف نسمة، أي ما نسبته 20 إلى 25 بالمائة من مجموع السكان الفلسطينيين الذين بقوا داخل إسرائيل. لا توجد إحصاءات رسمية لأعدادهم اليوم، إلا أنه يمكن افتراض أن عدد لاجئي الداخل ومن يعولون مازال يشكل ما نسبته 20 إلى 25 بالمائة من إجمالي تعداد السكان الفلسطينيين داخل إسرائيل، أي ما يتراوح بين 300 ألف و350 ألف نسمة.
وأوضاع هؤلاء ظلت وماتزال أصعب بكثير من أوضاع إخوانهم الفلسطينيين الذين ظلوا في قراهم داخل إسرائيل. ولما لم تسمح لهم إسرائيل بالعودة إلى قراهم، التي ما لبثت من بعد أن دمرت عن بكرة أبيها، كان صعباً جداً عليهم شراء عقارات وبناء منازل جديدة في القرى الفلسطينية التي استقروا فيها، بسبب ازدحامها الشديد وفقرها المطقع. ولما كان معظمهم فلاحين قبل تهجيرهم في عام 1948 وصودرت منهم أراضيهم، فلم يكن أمامهم من خيار تقريباً سوى الاشتغال كعمال.
لم تبذل لا الحكومة الإسرائيلية ولا المجتمع الدولي أي جهود لمساعدة هؤلاء المهجرين داخلياً على التعافي، وفي الوقت نفسه لم يكن سهلاً عليهم الاندماج في المجتمعات الفلسطينية الجديدة، التي كانت في بعض الأوقات ترمقهم بعين من الشك. لقد كانوا، باختصار، غرباء الغرباء.
التوعية بالنكبة
من المثير حقاً أن هؤلاء المهجرين داخلياً هم الذين ساعدوا في خلق وعي جديد بالنكبة بين المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. وفي هذا السياق يشير إيتان برونستين، مؤسس منظمة زوخروت المكرسة للتذكير بالنكبة، إن رابطة الدفاع عن حقوق المهجرين داخلياً هي التي بدأت مسيرات يوم النكبة إلى القرى التي جرى تدميرها في عام 1948 وفي الأعوام التي تلت ذلك.
ويقول برونستين إن تجاهل اتفاقية أوسلو لقضية اللاجئين هو الذي دفع الفلسطينيين إلى تولي أمر هذه القضية بأنفسهم. ويضيف إنه حتى تلك اللحظة كانت النكبة مجرد حدث يتذكره الناس بشكل شخصي أو عائلي. ثم ما لبثت المسيرات التي تنطلق نحو القرى المدمرة، والتي انضم إليها عشرات الآلاف من الفلسطينيين في عيد الاستقلال الإسرائيلي، أن حولت ذكرى النكبة إلى حدث سياسي وثقافي.
إيلين خوري، مواطنة فلسطينية في إسرائيل التي تعمل مهندسة معمارية وفنانة. ولدت إيلين في قرية فاسوته لأب كان قد اقتلع من قرية سخماطة المجاورة ولأم اقتلعت من قرية عكريت.
كان والدها، الذي ينحدر من عائلة مرموقة في قرية سخماطة، يعمل في قطاع الإنشاءات، وكان يبني منازل للمهاجرين الجدد من اليهود. لم يتوقف أقارب والدتها، حسبما تتذكر، عن الشعور بالبؤس والظلم في القرية التي استقروا فيها بعد أن اقتلعوا من عكريت.
يمكن وصف إيلين خوري بأنها من الذين اندمجوا في المجتمع الإسرائيلي، فهي تعيش في حيفا، حيث تعمل مصممة، وهي متزوجة من طبيب ناجح ويجيد ابنها العزف على الكمان. ولكنها ككثير من الفلسطينيين من أبناء جيلها لا تدع القرى المدمرة تفارق ذاكرتها.
لقد حاولت في معرض نظم في تل أبيب قبل شهرين أن تبعث من جديد إلى الوجود سخماطة، قرية والدها المدمرة، وذلك من خلال عمل فني اشتمل على فيلم فيديو وصور لها وهي تمشي بين الأنقاض وعلى عرض بعض الخرائط القديمة. كما وزعت على الحاضرين ورقة كتبت فيها: “لا نملك ترك الذاكرة تتلاشى".
قضية حقوق مدنية
يتذكر برونتسين أن رابطة الدفاع عن حقوق المهجرين داخلياً مضت خطوة أخرى إلى الأمام، حينما وضعت مسودة خطة لإعادة بناء إحدى القرى المدمرة. لم تحصل الخطة على موافقة السلطات، كما هو متوقع، إلا أنها مثلت تحد للمسؤولين الإسرائيليين كما حولت حق العودة من مجرد مسألة نظرية – ومرعبة في الوقت نفسه – إلى قضية مدنية، تتمثل في حق مواطنين إسرائيليين بالعودة إلى الأراضي التي انترعتها منهم حكومتهم عنوة.
وها هو أيمن عودة، رئيس القائمة المشتركة الذي يستمتع فيما يبدو بتحدي الرأي العام اليهودي، يمضي قدماً في الاتجاه نفسه، فبعد آخر مسيرة من مسيرات يوم النكبة، التي نظمت قبل عشرة أيام، كتب في صفحته على الفيسبوك يقول إن حق الناس المهجرين داخلياً في العودة إلى قراهم هو "حق أخلاقي وعادل"، وأنه يتوجب أن يسمح لهم بالعودة.
وأشار عودة إلى أن أراضي معظم القرى المدمرة "ماتزال خالية وغير مأهولة"، ولذلك فليس ثمة خوف من أن ينجم عن عودة أصحابها ظلم جديد. وأضاف: "بل على العكس تماماً. من شأن عودة هؤلاء أن تزيل ظلماً تاريخياً وقع، وأن تثمر منافع أخلاقية ووطنية ومدنية تعود بالخير على المواطنين كافة، اليهود والعرب منهم على حد سواء".
وكما قد تفيدنا النقاشات التي دارت بين الصحفيين الإسرائيليين، من شأن مثل هذا النمط من التفكير السياسي أن يكسر الحاجز النفسي حينما يجري التعامل مع مسألة حق العودة، وذلك أنه حينما يسمع اليهود الإسرائيليون هذه الكلمات، يخلصون مباشرة إلى أن ثمة مؤامرة تحاك لإغراق إسرائيل بملايين اللاجئين الذين سيدمرون "يهودية" الدولة. أما تحويل الأمر إلى قضية حقوق مدنية فإنه يسهل عليهم فهم ما وقع من ظلم وحيل بسببه بين الناس والعودة إلى قراهم.
بالطبع، يمارس عودة ههنا لعبة في غاية الحساسية، فحتى مجرد الإيماء إلى أنه قد يسمح للفلسطينيين المهجرين داخلياً بالعودة إلى قراهم دون حل مشكلة اللاجئين خارج إسرائيل، أمر مرفوض لدى الرأي العام الفلسطيني، سواء في إسرائيل أو في خارجها؛ ولذلك تراه يؤكد الحاجة إلى حل شامل لمشكلة اللاجئين. تذكر إيلين خوري أن أحد أعمامها أخبرها بأن اللاجئين من سخماطه الذين يعيشون في لبنان "يعتمدون علينا حتى نعيدهم إلى ديارهم".
لكن إنجاز أي نوع من العودة، حتى لو كان ضئيلاً ورمزياً فقط لا غير، يبدو مستحيلاً تقريباً في الوضع السياسي الحالي في إسرائيل، فالسلطات الإسرائيلية ترفض السماح للاجئين بالعودة إلى قريتي عكريت وبرعام بالرغم من صدور قرار عن المحكمة العليا يأمر بالسماح لهم بالعودة إليهما. ومع ذلك، قد تمثل خطوة عودة، وكذلك الجهود التي تقوم بها مبادرات أخرى مشابهة، بداية تبدل في اللغة التي يتحدث بها الإسرائيليون عن النكبة. فعلاً، قد تمثل تلك الجهود خطوة مهمة إلى الأمام.
ميرون رابوبورت – صحفي وكاتب إسرائيلي، حائز على جائزة نابولي للصحافة عن تحقيق أجراه حول سرقة أشجار الزيتون من ملاكها الفلسطينيين. عمل سابقاً نائباً لرئيس قسم الأخبار في صحيفة هآرتس، وهو الآن صحفي مستقل.
(مترجم خصيصا لـ"عربي21" عن موقع "ميديل إيست آي"، 15 أيار/ مايو 2015)