هناك مجموعة من المؤشرات برزت على السطح منذ انقلاب 3يوليو/ تموز 2013 بمصر تشير إلى أن الصراع ليس صراعا سياسيا فحسب، بمعنى: من يحكم البلاد؟ وهل سيتم ذلك بطريقة ديمقراطية أم لا؟ وهل هناك قبول من النخبة الليبرالية بنتائج الانتخابات الديمقراطية؟ وهل هناك قبول أم رفض لحكم الإخوان؟.. وإنما يتضح أن الصراع أكثر عمقا وتعقيدا. حيث بات الحديث عن الهوية وهل مصر إسلامية أم علمانية.... وبالرغم من أن هذا السؤال حسم من أيام دستور الملك عام 1923، إلا أنه من الواضح أن هناك منهجا لاستئصال كل ما هو إسلامي من مظاهر وربط ذلك زورا وبهتانا بشماعة الإخوان. لدرجة وصلت إلى حرق بعض كتب التراث التي ربما تخالف منهج الإخوان مثل كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ علي عبد الرازق، والذي تراه النخبة العلمانية أصلا لها في تأكيد مفهوم العلمانية وفصل الدين عن الدولة، وتناست أن الأزهر من خلال هيئة كبار العلماء رفض هذا الكتاب في حينها.
مظاهر معاداة الدين وليس "المتدينين" الذين يتم قصرهم بالخطأ على الإخوان فقط، ليست في حاجة إلى توضيح، فكما سبق القول.. هناك منهج واضح لهذا الهجوم على ثوابت الدين ذاته مثل قضية الحجاب، بل إن الأمر تعداه ليس لنقد أو حتى الهجوم على فكر الإخوان باعتبارهم الشيطان الأكبر من وجهة نظر الانقلابين والعلمانيين، وإنما امتد ليشمل رموزا إسلامية مثل أئمة الحديث كالبخاري ومسلم، وكذلك القادة الإسلاميين الذين قاموا بفتوحات إسلامية عظيمة للأمة ككل وليس لمصر سواء في شمال إفريقيا كعقبة بن نافع، أو تحرير الأقصى من الصليبيين كالقائد صلاح الدين، حيث تم حذف السيرة الخاصة بهما من مناهج الفصل الدراسي الثاني، والذي قام بذلك لجنة تطوير المناهج التابعة لوزارة التربية والتعليم الذي وافق وزيرها على الحذف دونما أي اعتراض من الحكومة. وهو ما يعني أن الوزير ينفذ توجيهاتها، بل وتوجيهات رأس السلطة التنفيذية ممثلة في عبد الفتاح السيسي الذي دعا إلى ثورة دينية شاملة ويبدو أن المقصود بها ليست ثورة على غرار ثورة الخوميني في إيران عام 1979، ولكن ثورة ضد ثوابت الدين. وهو أمر راجع إلى التوجه العلماني للمؤسسة العسكرية منذ إعادة تأسيس الجيش المصري على يد البريطانيين نهاية القرن التاسع عشر.
مفهوم الهوية
إن هوية" أي كيان "فردي أو جماعي" هي مجموعة الخصائص والصفات التي يُعرّف بها هذا الكيانُ نفسُه، ويعرفه بها غيرُه، وتظلُّ حاضرةً في شعوره، وتمثِّل المرجعية العليا لعقيدته وخلُقه وسلوكه وتعامله، فالهوية- إذًا- بالنسبة لأي كيان هي جوهره الذي يميزه، ومحوره الذي يدور حوله.. ونفس الأمر بالنسبة للمجتمعات. ومن هنا تحرص كلُّ أمة على تأكيد هويَّتها والاعتزاز بها والتصدي بحزمٍ لمحاولات مسخِها أو طمسِها، ففرنسا أم التنوير والديمقراطية كما يقولون.. ترفض التوقيع على الجزء الثقافي من (اتفاقية الجات)، حتى تتمكَّنَ من تقييد دخول المواد الثقافية الأمريكية إليها، والتي تَعتبرها فرنسا تهديدًا صارخًا لهويتها القومية والهند.. يمنع الهندوس بيع الزهور في "يوم الحب"، بل ويحرقون المحلاَّت التي تتجرَّأ على بيعها؛ بزعم أن هذا يتنافَى مع الهندوسية والثقافة الهندية.
ويلاحظ أن الهوية تتشكل من روافد شتى تاريخية واجتماعية، وجغرافية، إلا أن الدين يظل هو الرافد الأكبر لاسيما إذا كان جامعا لكل مناحي الحياة.. ولقد كان للإسلام الدور الأكبر في الهوية المصرية على مدار 14 قرنا، بحيث صار دين الدولة " أي دين الأغلبية التي تشكل 90%" من سكانها. وليس معنى الهوية الاسلامية انها تتجاهل كل الثقافات الأخرى الموجودة تاريخيا في المجتمع، وإنما هي بمثابة البوتقة الجامعة لها. فالهوية تنطلق من الدين كأهم قيمة جامعة للمصريين،وكذلك تراث مصر الحضاري، وتراكم خبراتها التاريخية وموقعها الجغرافي... أي هي تركز على العناصر المكونة لهذه الهوية وفي القلب منها الدين.
وكما يقول الدكتور محمد عمارة في كتابة " هوية مصر الإسلامية"، فإن الهوية الاسلامية جزء أصيل وموروث من تاريخ مصر الإسلامية، الذي مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرناً. وهي تعبير عن هوية الدولة والمجتمع والأمة والحضارة، مثلما تعبر "العلمانية" عن هوية بعض المجتمعات، وتعبر "الليبرالية" عن هوية مجتمعات أخرى، وفي هذه المجتمعات العلمانية والليبرالية تعيش أقليات مسلمة يزيد تعدادها في كثير من الأحايين على تعداد المسيحيين في مصر، ثم إن هذه الهوية العربية الإسلامية لمصر، قد اختارتها وأقرتها اللجنة التي وضعت دستور سنة 1923م، بإجماع أعضائها، بمن فيهم القيادات الدينية المسيحية واليهودية. كما أن 63% من المواطنين المسيحيين المصريين، الذين تم استطلاع آراؤهم حول تطبيق الشريعة الإسلامية - بما فيها عقوبات الحدود في استطلاع الرأي الذي أجراه «المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية» بمصر عام1985م وافقوا على قوانين الشريعة الاسلامية "( ).وهو ما أكد عليها زعماء الأقباط السياسيين والدينيين. فالزعيم مكرم عبيد صاحب المقولة المشهورة "نحن مسلمون وطنا نصارى دينا "، وكذلك البابا شنودة في تصريح للأهرام بتاريخ 6 مارس 1985م» قائلاً: "إن الأقباط في ظل حكم الشريعة يكونون أسعد حالاً وأكثر أمناً، ولقد كانوا كذلك في الماضي، حينما كان حكم الشريعة هو السائد، نحن نتوق إلى أن نعيش في ظل: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا".
ومع ذلك كان واضحا أن هناك شبه اتفاق بين كل من النخبة العسكرية وكذلك الليبرالية والقبطية على طمس هذه الهوية لصالح الهوية العلمانية. ولقد كانت نقطة البدء لتنفيذ ذلك دستور الانقلاب، وتأكد هذا من تشكيل لجنة الخمسين للدستور والتي سيطرت عليها النخب العلمانية بتياراتها المختلفة الليبرالية واليسارية. ثم جاء المنتج الأهم وهو الدستور يشكل تراجعا واضحا عن هذه الهوية بحيث يكون الأساس للممارسات التي نراها حاليا وسنراها مستقبلا أيضا في اتجاه النيل من الدين وثوابته وليس من المتدينين فحسب.
تراجع الهوية في دستور الانقلاب
إن المتأمل لبنود الهوية في دستور الانقلاب 2014 يلاحظ عدة أمور كلها تصب في اتجاه تراجع الهوية الإسلامية لمصر.
فالدستور لم يعترف بالأمة الإسلامية.. والاقتصار في مقدمة الديباجة على أن مصر العربية، وفي المادة الأولى الخاصة بهوية الدولة تم النص على أن"... الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تكاملها ووحدتها، ومصر جزء من العالم الإسلامي".. وواضح أن هناك اعتراف بالأمة العربية دون الأمة الإسلامية..وربما هذه الوجهة هي التي عبّر عنها المخرج خالد يوسف أحد أشهر مؤيدي العلمانية وفكر الانحلال في أفلامه
ولعل الأمر الثاني في هذا الدستور هو الغاء النص الخاص بأخذ رأي الأزهر في القضايا المتعلقة بالشريعة الإسلامية بالرغم من أن نص المادة الرابعة في دستور 2012 تشير إلى أخذ الرأي فقط، وليس وجوب الأخذ به، إلا أن القوى العلمانية أصرت على حذفها على اعتبار أن أي رأي يتعلق بالشريعة من اختصاص المحكمة الدستورية وحدها. وفي هذا انتقاص من دور الأزهر.بل إن وزير الثقافة الحالي جابر عصفور اشار إلى أنه سيخالف رأي الأزهر في أي قضية تتعلق بالإبداع، لأنه يرى أن هذا الدور أشبه بدور ولاية الفقيه في إيران.
كذلك جاء دستور الانقلاب خاليا من المادة 44 من دستور 2012 التي تحظر الإساءة أو التعريض بالرسل والأنبياء كافة. وفي المقابل النص على حرية الابداع، مع عدم جواز الحبس بشأنها، إلا في حالة الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد فقط.. وهو ما قد يعني امكانية الاساءة الى الأنبياء والرسل، أو تجسيدهم في بعض المسلسلات.. ويبدو أن الشخصيات الفنية حاولت تفصيل هذا النص مقابل حذف المادة 44 لإطلاق العنان لفكرة الإبداع، حتى وإن كان مخالفا للهوية الاسلامية للشعب. ومن هنا يمكن فهم الحرص على بث الفيلم الأجنبي الذي يجسد شخصية سيدنا نوح عليه السلام على الرغم من اعتراض الأزهر على ذلك. بل وكذلك الحرص على فيلم حلاوة روح الذي يتضمن مشاهد خادشة للحياء، فضلا عن قصته التي تظهر الأطفال على أنهم أصحاب سلوك جنسي منحرف.
إذن بات كل ما يحدث من مظاهر في مصر نحو العلمانية في إطار ممنهج نابع من هذا الدستور الذي ربما لم يستطع إلغاء الهوية الإسلامية تماما، ولكن عمل على تراجعها أو ربما وضع نصوص تتعارض مع بعضها البعض بحيث يتم تفسيرها حسب الهوى والمزاج " النص على مبادئ الشريعة الإسلامية مقابل رفض إقامة الأحزاب على أسس دينية " إسلامية بالأساس"، وكذلك النص على مبادئ الشريعة مقابل حرية الإبداع". وهو ما يعني في الأخير أن الصراع في مصر ليس صراعا سياسيا بالأساس له أدواته الديمقراطية " الانتخابات تحديدا"، ولكن بات صراعا دينيا حول الهوية " إسلامية أم علمانية" أو " إسلامية أم قبطية" وربما هذا الصراع هو الأخطر على البلاد. فربما يتم تسوية الصراع السياسي عن طريق تسوية سياسية ما، لكن الصراع الديني أو صراع الهوية ربما يصعب احتواؤه أو حله في زمن قريب. وهذا هو الأخطر. فهل يدرك القائمون على شئون البلاد الأن أنهم يلعبون بالنار؟
1
شارك
التعليقات (1)
من اولىاء الله
الأحد، 17-05-201503:24 م
والله العظىم ثلاث مرات ان العلمانىه ستنهزم فى مصر وسىنتصر الاسلام رافع راىاته