بنيت العملية السياسية في الشرق الليبي على تفاهم غير مكتوب بين ثلاثة أطراف فاعلة في الشأن الليبي؛ تمثلت في حكومة رئيس الوزراء المكلف من المؤتمر الوطني بتسيير الشئون الجارية منذ إقالة على زيدان في 11 آذار/ مارس 2014 والذي جدد له برلمان طبرق العهدة رئيسا للحكومة بعد انطلاق عمله بعدة أشهر.
أما الطرف الثاني فيمثله برلمان طبرق الذي انطلق من أول يوم بطريقة غير قانونية، حيث نقل مقره من بنغازي، ورفض استلام العهدة من سلفه المؤتمر الوطني، أما الضلع الثالث فتمثله عملية الكرامة بقيادة
حفتر، والتي شكلت الجناح العسكري المتمرد على طرابلس، وقيادة الأركان العامة للجيش.
مما جعل
عبد الله الثني حينها وهو وزير الدفاع المكلف بتصريف الأعمال ورئاسة الحكومة المؤقتة، يصف الكرامة واللواء المتقاعد خليفة حفتر بالانقلابي، وهو ما جعل الليبيين في الشرق ينظرون دائما للثني بشيء من الاحتقار لاحقا عندما رضخ لأجندة الكرامة بضغط إماراتي مصري.
وفاق مصلحي مؤقت
لكن أحداث السادس والعشرين من أيار/ مايو التي أوقف خلالها مسلحون جلسة استجواب برلمان طبرق لحكومة الثني، تعيد إلى الأذهان الصراع السياسي الذي اندلع في طرابلس، وأوقف جلسات المؤتمر الوطني لتشكل تلك الأعراض جزئا من مخاض مولد لعملية الكرامة في الخامس عشر من آيار/ مايو، والتي شكلت أكبر عامل يغذي الانقسام في ليبيا منذ ذلك الوقت وحتى الآن.
من الواضح أن الأيادي الإقليمية والمصرية على وجه الخصوص باتت أهم فاعل سياسي في ليبيا، وخصوصا في الشرق الليبي حيث تركز مليشيات مسلحة تابعة للواء حفتر سيطرتها على طبرق والبيضاء، حيث تتخذ حكومة الثني من البيضاء مقرا لها منذ نقلها لعملها إلى المدينة بعد انتخاب البرلمان الملغي بقوة الحكم القانوني من طرف الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في طرابلس منذ السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر 2014.
الخلاف بين الثني، وحفتر ظهر أكثر من مرة في معركة بنغازي، ومجمل إدارة الملف وإن كان أنصار حفتر يحملون الحكومة مسئولية ضعف الدعم الدولي، وتأخر شحنات الأسلحة، وضعف الأداء عموما في إدارة طبرق والبيضاء، بينما يحمل أنصار الحكومة المسئولية للبرلمان، أما الكرامة ورغم أنها المحرك الأصلي لكل العوامل الحالية المؤثرة سلبا في حياة الليبيين، إلا أن مشجب البرلمان والحكومة ظلا يشكلان مجنا حاميا لها من الصدمات الشعبية النقادة.
متغير تصفية الثني
المتغير الجديد في عملية التنافس السياسي ما بين حفتر والثني أنه لأول مرة يظهر استهداف الثني، ويصرح الأخير بأنه مستهدف بعملية اغتيال نجا منها وأصيب أحد مرافقيه، ومن الواضح أن استهداف الثني لا يمكن أن يحصل بسهولة لأن برلمان طبرق يجتمع في مكان حصين ( القاعدة البحرية بطبرق) كان ولا يزال مقرا أمنيا كما أن اليد الطولي في طبرق أمنيا وعسكريا هي لمليشيا الكرامة والقواعد العسكرية المنضمة لها من بقايا الجيش السابق، ولا يمكن أن يستهدف الثني في ظل هذا الوضع إلا بإيعاز من حفتر ورفاقه العسكريين.
عبد الله الثني ينحدر من مدينة اغدامس عقيد سابق بالجيش الليبي سجن في الثمانينيات، على خلفية هروب أخيه الطيار أثناء حرب أتشاد عين وزيرا للدفاع في حكومة زيدان.
مشكلة الثني وهو خلاسي هجين كما هم أهل الواحة في غدامس أن الفرز القبلي والجهوي في الشرق لا يمكن أن يستريح إليه، وربما تكون نخب طبرق والبيضاء لا تجد الراحة النفسية في التعامل معه فهو ليبي من حواشي الغرب جاءت به توازنات السياسة وصدفها، وربما الحظ في الرمزية والبروز السياسي في لحظة تاريخية مضطربة إلى حيث التفاخر بالحسب والنسب.. إن كل العوامل تجعل السياق في الشرق العشائري لا يخدم العقيد عبد الله الثني.
يضاف إلى ذلك طموح منافسه وخصمه اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يثير وجود الثني إلى جانبه رئيسا للحكومة حساسية الأحساب والأنساب القبلية المستقرة في أبناء الوسط المؤيد لعملية الكرامة، وفي كل مرة تبرز انتقادات من هذا القبيل للثني على هذه الخلفية، مما يوقظ لدى حفتر أيضا عقدة ضعف ظهيره القبلي في الشرق.
إنها عقدة نقص مستكنة في نفوس أبناء برقة وعشائرها التي ترى في الفرجاني المهاجر للمرج غريبا قادما في الأصل من الغرب استقر ليتسلق في الشرق على ظهور أبناء برقة التي يقود عسكرها رجالها وشبابها منذ عام ونصف للمهالك، وفي معارك لا منتصر فيها ولا مهزوم، هكذا يتهامس المسنون من قبائل ادرسة، ولعبيدات، والمغاربة، والعرفة، على هوامش العزاءات المتكررة لنعي مزيد من أبناء إقليم برقة المنكوب.
وابل الرصاص الموجه إلى موكب العقيد المهيمن على الحكومة يهدف إلى اغتيال روح التوثب والرمزية والطموح في نفسية "الثني" رئيس الحكومة، أكثر مما يستهدف "شخص العقيد" وقد تكون الرسالة وصلت لبن غدامس فأبناء الواحات يأخذون من النخلة بعض السمات فهي لا تموت إلا واقفة ولذلك كان تصريحاته دقائق بعد وابل الرصاص مدويا وكثيف المعاني من الناحية السياسية.
يقول فحوى الخطاب لدى رئيس الحكومة الهارب من جلسة برلمانية لاستجوابه، "مهما كانت زخات الرصاص قوية وتؤذي تتلقاها يميني وتردها شمالي غير أني قادر صفع غباء عملية الكرامة السياسي..، يمكنكم أن تتخلصوا مني لكن ليس بهذه الطريقة"، ربما دارت في خلد العقيد بعناده العسكري مثل هذه المماحكة وهو يغادر القاعدة العسكرية الجوية مقر برلمان طبرق.
القبيلة والتقسيم
الراجح أن الأيادي المصرية التي انغمست في الملف القبلي الليبي، ربما تدرس الآن تأسيس شرعية قبلية سياسية مساندة لعملية الكرامة، تمهيدا لإنهاء مهام حكومة الثني وبرلمان طبرق، واستبداله بأداة أخرى شبيهة بالمؤتمرات الشعبية أيام ملك الملوك الراحل معمر..، وذلك من أجل تأسيس حكومة مركزية قوية في الشرق يمسك بها أبناء المنطقة أنفسهم مع الاستغناء عن خدمات أبناء المناطق الأخرى في المراكز الحساسة، وإطلاق مشروع وطني جديد يكون هدفه الرئيس السيطرة على المنطقة الشرقية.
وتنصيب قائد الكرامة عليها والعمل على تأميم منطقة الهلال النفطي ومحاصرة المنطقة الغربية والجنوب، حتى يرضخوا دون قتال والسعي إلى تفكيك الأحلاف السياسية خصوصا وأن تقاربا من نوع ما قد حصل بين بعض أطراف فجر ليبيا وحفتر..، ونتذكر أيضا في هذا السياق التفاهم بين بعض أطراف مليشيا جيش القبائل وكتيبة الحلبوص المنضوية في فجر ليبيا.
من الناحية الدولية ربما يخدم مشروع كهذا أجندات التقسيم التي تميل إليها بعض الأطراف الغربية خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى إلى التمكين لحفتر بوصفه حليفا موثوقا في ليبيا له القدرة على مجابهة التيارات الإسلامية التي ستقبل في ليبيا "المشروع المصري الأمريكي" بشرط أن تكون منزوعة السلاح وبدون طموح كبير في المشاركة السياسية.
في هذا السياق ينعقد مؤتمر القبائل الليبية، وليس من مهامه النجاح الفعلي كهيئة شعبية ذات مخرجات ماثلة على الأرضية السياسية، وإنما ستكون مهمته تعبوية وإعلامية، كما سيشجع بعض المتعبين من الصراع على الخروج منه تحت يافطة قبلية خصوصا إذا توالت المؤتمرات القبلية وأجلب الحلف الإماراتي المصري بخيله ورجله على قبائل الغرب التي لم تحضر، واحتج بعضها على المؤتمر رافضا صيغة انعقاده خارج البلاد.
الوضع الليبي يسير في اتجاهات متعددة، ومن الواضح أن التقسيم للأسف يلوح في الأفق أكثر من أي وقت مضى، وربما يكون النفط الليبي والسيطرة عليه هو حجر الزاوية في كل هذا الصراع خصوصا فيما يتعلق بالأطماع الخارجية، بينما تبقى أطماع الزعامة واثبات الذات أهم المحركات في الأجندات الداخلية سواء كانت تلك الذات شخصية ذاتية أو اعتبارية، سواء كانت مدينة أو قبيلة أو حزب أو حركة، فالكل يدور حول هموم جزئية غير وطنية..، ويتم توظيفه من قبل الدول الفاعلة في الإقليم والعالم لينفذ خيارات مناقضة للمصلحة القومية والوطنية.