يراهن كثيرون من الإسلاميين على الموقف السعودي الأخير إثر التحولات السياسية التي عرفتها دوائر صنع القرار في المملكة، ويتوهم هؤلاء أن ثمة فرصة تاريخية للتحالف السياسي ما بين تيارات
الإسلام السياسي المعتدل والمملكة لمواجهة التحديات الكثيرة التي تعرفها المنطقة بشكل غير مسبوق، ويرى المتفائلون للموقف السعودي الأخير المتمثل في التصدي للدور الإيراني في المنطقة فرصة لتطور رؤية سنية (سعودية - إخوانية) في الصراع لمواجهة
المد الإيراني.
غير أن موقف
السعودية من الإسلام السياسي وتحديدا
الإخوان يبقى قلقا وغير مطمئن لإمكانية بناء تحالف مع طيف واسع يفتقر للمرجعية الموحدة وله طموحات كبيرة تتجه صوب الأرضية السياسية التي تقف عليها المملكة ذاتها، والتي توظف الدين من جانب لترسيخ سيطرتها السياسية وتسعى لتحرير المجال السياسي من غزو التيارات الدينية وخصوصا ذات الطبيعة التنظيمية القوية وذات الأولويات السياسية.
خلفيات الصراع السياسي الديني
تأسست المملكة العربية السعودية في الجزيرة العربية وسط اضطرابات سياسية قوية مع مطلع القرن العشرين على يد الملك عبد العزيز بن سعود بعد محاولات تأسيس فاشلة من طرف أسلافه امتدت طيلة القرن التاسع عشر تقريبا وبديات القرن العشرين منتصف الثلاثينيات منه حيث تمكن الملك عبد العزيز من إرساء حكمه.
نازل الملك عبد العزيز(1876/1953) عوامل معقدة فقد صارع الأشراف المتحالفين مع العثمانيين وبريطانيا وهما الدولتان الأهم في المنطقة في ذلك الوقت وساعدته عوامل جزئية في تقلبات السياسة على نسج علاقات قوية بالإنجليز الذين وجدوا فيه ضالتهم، وشكل منذ العشرينات بالنسبة لهم خيارا مناسبا وطيعا يشكل شريكا واقعيا غير مزعج بطموحاته بخلاف حليفهم السابق في مكة، فقد كان البريطانيون يعانون من طموحات حاكم الحجاز الشريف حسين الذي فجر الثورة العربية، ووقف مع المملكة المتحدة خارجا على الحكم العثماني وساعيا لإرجاع الخلافة للحضن العربي في دمشق وبغداد غير أن طموحات الشريف ومطالبه لبريطانيا بالوفاء بعهودها تجاه العرب، وتناقض ذلك مع السياسة البريطانية التي تعهدت لليهود بوطن قومي كل تلك العوامل خدمت الملك عبد العزيز وهيأت له الظروف ليكون هو الخيار الأنسب للتعامل والدعم في سياسات ما بعد "سيكس بيكو"، وتقسيم تركة الدولة العلية العثمانية (مظلة الخلافة الإسلامية).
قامت المملكة على أساس التحالف ما بين أسرة آل سعود وآل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومن أول يوم كانت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بحاجة لسند سياسي نظرا لطابعها الحنبلي البغدادي المعتمد على ترجيح مذهب أحمد بن عبد السلام بن تيمية، وما ينطوي عليه من موقف مخاصم للفكر الكلامي الأشعري والمذاهب الفقهية الحنفية والمالكية والشافعية لمناهضة لبن تيمية وأفكاره الاجتهادية منذ قرون.
ولذلك فقد وجدتها الدولة العثمانية فرصة مواتية لمحاربة الدعوة الجديدة، واستنفار الرأي العام المذهبي المستقر ضدها فقها مذهبيا وتصوفا طرقيا، وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير حتى السبعينيات من القرن العشرين حيث أعادت الوهابية تعريف نفسها تحت مسمى السلفية بوصفها مذهبا تجديديا ممتدا في الثقافة الإسلامية منذ عصور، وتمت عملية إعادة تعريف ونشر المذهب الوهابي عبر أجهزة الدولة السعودية وبأموالها في سياق ضعف وانهيار المؤسسات والمدارس الإسلامية في العالم الإسلامي، نتيجة موجة التغريب والعلمنة التي استحكمت في البلاد الإسلامية الأخرى وتحت حاجة هذه المدارس والقطاع الديني للدعم السعودي أضحت "الوهابية" مذهبا مقبولا في العالم الإسلامي.
- أولا :
التوظيف الذكي للشعار الإسلامي: عندما بدأ الملك عبد العزيز حكمه للرياض بعد قضائه على حكم آل رشيد بدأ في استقطاب القبائل لتأسيس جيش قوي، غير أنه أدرك أن الاعتماد على القبائل ينطوي على مخاطر عديدة فهم في الغالب يناصرون الجيش الحليف في حال انتصاره أما في حال انكسار المعارك فإنهم ينقلبون حليفهم ينهبونه باعتبارهم أولى بالغنائم من العدو المنتصر هكذا يفكرون، وبالتالي فهم عامل قوة في الحشد.
ولكنهم يتحلون إلى عامل انكسار في اللحظات الحرجة لأنهم إنما يخلصون فقط للقوي المنتصر تلك كانت فكرتهم وذلك منطق المقاتلين من أبناء العشائر في طبيعته المستقرة .. جابه الملك هذه المعضلة وأرقته كثيرا فما بناه بصبر ومخاطرة مهدد في لحظات الانكسار بانهيارات داخلية لا تبقي ولا تذر.."إنه يرد جنودا ينفعونه في السراء والضراء لكي يبني بهم دولة ظافرة مستقرة يعيد بها ملك آبائه .. وقد تفتق ذهنه عن حل مستمد من تاريخ الإسلام، وهو ما كان يسمى بـــ"الهجرة" فأسس قرى شجع المقاتلين البدو على الهجرة إليها، وهناك تأسست حركة إخوان من أطاع الله في تلك القرى التي عرفت فيما بعد باسم "الهجر" ونجحت لحركة في بناء عقيدة عسكرية ثابتة الولاء والرؤية لزعماء تلك القرى، ونجحت في إدخال متغيرات جوهرية على المقاتل البدوي الباحث عن المغنم، وحولته إلى إنسان مؤدلج مرتبط عضويا بالجماعة وقادتها وقراها التي هي في الحقيقة مراكز للتعبئة العقائدية والعسكرية المستلهمة لتجارب التاريخ الإسلامي"ونجحت الفكرة نجاحا كبيرا غير أنها طرحت تحديات كبيرة فكرية وسياسية فقد وجد الملك نفسه عندما سيطر على الحجاز في صراع مع حركة جهادية مثالية ثائرة تريد تحطيم كل شيء، هكذا تأسس منطقها في قراها البدوية ثم دخلت فجأة إلى حضارة الحجاز المقدسة، وكان على ابن سعود أن ينصاع لمثاليات حلفائه أو يصطدم بهم كما تفرض عليه واقعية السياسة.
فكر الملك وقدر واستخدم أسلوب المدارة والصبر ولجأ إلى الحيلة أحيانا وفي الأخير كان عليه أن يجهز على قيادات الإخوان خصوصا عندما أرادوا التوجه للعراق لمجابهة الاحتلال الإنكليزي 1927 .. غير أن ابن سعود انحاز في النهاية لواقعية المنطق السياسي وواجه حلفاءه السابقين عندما قرر الحسم العسكري في واقعة السبلة الشهيرة (30آذار1929)، وفي أوائل (كانون الثاني 1930) وقعت المعركة الأخيرة مع بقايا جيش إخوان من أطاع الله بقيادة فيصل الدويش ووقعوا في هزيمة جيش بن سعود.. وانتهى الأمر باثنين من قيادتهم في السجن بالرياض.(يمكن الرجوع إلى علي الوردي لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث "قصة الأشراف وابن سعود" ص216-217/والصفحة 333).
عندما تخلص الملك عبد العزيز من الإخوان تنفس الصعداء من حركة أرقته وأسست للخوف والقلق السياسي من أي حركة سياسية ذات طابع ديني لأن المملكة تأسست من أول يوم على توظيف الفكرة الدينية لغرض الملك وخدمة الاستقرار السياسي بعيدا عن الشعارات الرنانة بل إن الملك عبد العزيز شكل خيارا واقعيا مقنعا للإنكليز بحكم كونه لم يسع يوما لرفع راية الخلافة أو يتحدث عنها بخلاف الشريف حسين الذي وقع في خلافات مع ممثلي الانتداب البريطاني حول الخلافة وسياسة الإنكليز تجاه فلسطين والمسجد الأقصى.
- ثانيا :
الحساسية تجاه المنافس الديني: أسست ذاكرة الصراع هذه إضافة للخلافات والتباين في الرؤى أحيانا مع الأقوياء من آل الشيخ في ذهنية الأسرة السعودية إلى حساسية تجاه الرأي العام الإسلامي أو الإسلام السياسي ولذلك فقد استقرت الخبرة السعودية على تجنب الصراع أو التناقض مع الدين الذي نجح الملوك المتعاقبون في توظيفه لخدمة المملكة وديمومة استقرارها وحرصوا دائما على أن لا يتركوا أي فراغات للتيارات الدينية لكي تملأها.
والمؤسسات التي أنشئت في عهد الملك فيصل لخدمة فكرته حول "التضامن الإسلامي" والتي جاءت لتشكل مشروعا فكريا عالميا لمقاومة المد القومي واليساري أيام عبد الناصر اختارت هذا المصطلح العائم المنقطع عن إرث الخلافة خوفا من الموقف الدولي العالمي وخوفا كذلك من الأفكار الإسلامية الجديدة التي يرفعها الإسلام السياسي وحركاته الناهضة في تلك الحقبة.
ويرى العديد من المتابعين لتعاطي المخزن السعودي مع التيارات الإسلامية أن الموقف منها موقف مبدئي فهي مرفوضة ويجب ألا تمنح أي فرصة مهما تكن طبيعتها وتشكل حركة اجهيمان وأسلوب التعاطي معها نموذجا للرؤية الإستئصالية لهذا النوع من الفكر المنافس لأسس الشرعية السياسية حيث كان يمكن أن يتم التعامل معها عبر الحوار ولكن قرار المخزن كان مخلصا لنهج الملك عبد العزيز في التعامل مع حلفائه السابقين ومنافسيه لاحقا.
ونفس الأسلوب الاستثنائي واجه به المخزن السعودي دائما حركات وجماعات دينية متعددة بدئا بجماعة اجهيمان التي أيقظت في حسه تراث الصراع مع "إخوان من أطاع الله" وفي التسعينات تجدد الصراع مع تيار الصحوة ولجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية أما الصراع مع تيارات العنف والخوف من الإنفجارات والانتفاضات .. فهي كلها عوامل تغذي الرعب من المنافس السياسي على الشرعية.. وهو ما يجعل الخوف من التيار الإسلامي المعتدل أكبر بكثير من الخوف من تيارات العنف وبالتالي فلا ينتظر أن يكون للملكة مشروع سياسي يمنح "إخوان مصر أو اليمن دورا مستقبليا في تحولات المنطقة مع أنهم هم المؤهلون للتحالف مع المشروع السعودي الإقليمي الراهن إذا كان جادا في النهوض بدور بناء لصالح اليمن و العراق وسوريا ومصر وليبيا فهذه البلدان تعاني من أزمات مستمرة لعب فيها الدور الإيراني دورا سلبيا طائفيا غير أن استبعاد الحركات الإسلامية المعتدلة من مشاريعها الوطنية يعتبر جزئا من وضع العربة أمام الحصان.
- ثالثا:
تباين في الرؤية السياسية بين الوهابية والفكر الإخواني: يقوم فكر الإخوان المسلمين المعاصر على أن الشورى مبدأ شرعي وفريضة اجتماعية وفردية لقوله تعالى: "وشاورهم في الأمر" ولقوله: "وأمرهم شورى بينهم" ويرون أن آليات الانتخابات والمجالس البرلمانية واختيار الرؤساء عبر الاقتراع العام المباشر من طرف الشعب هي وسائل تحقق الشورى وتستجيب لهذا المبدأ بينما ترفض السلفية وخصوصا ما يوصف في عرف الدارسين بــ"السلفية الملكية" هذا التفسير وترى أن الديمقراطية منهج كفري كما أن طاعة ولي الأمر مبدأ شرعي ثابت وبالتالي فما يجري في بعض بلدان العالم الإسلامي من انتخابات وثورات شعبية بالنسبة للرؤية السلفية هو خروج على ولي الأمر ولا علاقة له بالإرادة الشعبية التي هي في فهم الفكر لإخواني المعبر عن إرادة الأمة المجسد للقيم والمبادئ الإسلامية في الصيغ المعاصرة.
- رابعا :
القيادات الشابة والخوف من مصير الشاه: تطارد الجيل الجديد في الخليج والسعودية على وجه الخصوص القيادات الشابة من الأمراء والمسئولين عن صنع القرار السياسي مخاوف من انهيار الأنظمة الأسرية مع موجات رياح التغيير الهوجاء التي تجتاح المنطقة، وتطاردهم باستمرار حالات الانهيار التي عرفتها أنظمة عديدة في المنطقة بدئا بشاه إيران وهروب زين العابدين ابن على والطريقة الشعبية التي اسقط بها الرئيس حسني مبارك الذي كان حليفا قويا للأسر الخليجية عرفوه وفيا في أزمة الكويت خلال حقبة التسعينيات.
لذلك فهم يعملون على تفادي تلك الحالة من خلال المناورة السياسية ويعتقد العديد من الفاعلين في الأسر الحاكمة أن المدخل الذي جرت به معالجة موضوع إسقاط حكم الإخوان في مصر لم يتسم بالحكمة نتيجة الخصومة الأيديولوجية التي اتسم بها الصراع، كما أن معالجة الأزمة بوسائل العنف من طرف الجيش وممولي الانقلاب على الشرعية الديمقراطية المصرية كان خطأ قاتلا بالنسبة للأنظمة الملكية التي تحرص عادة على تصفير المشكلات المستقبلية، لأن توريث الحكم بشكل مستقر يتطلب حكمة سياسية تتفادى ضلوع الأنظمة الأسرية بشكل مفتوح في صراعات من هذا القبيل، كما أن تجربة الانقلابيين في تصفية مؤسسات ديمقراطية منتخبة جعلت مصر تعيش أزمة مستمرة غير قابلة للاستمرار والطرف الرئيسي فيها القوات المسلحة المصرية التي لا تتحمل طبيعتها القومية الدخول في أزمات كهذه.
والخلاصة: أن المراهنة من طرف بعض الإسلاميين على أن المملكة يمكن أن تتحالف مع التيارات الإسلامية المعتدلة لتجاوز أزمات المنطقة الراهنة، خصوصا أزمتي اليمن ومصر تبقى أملا يصطدم بإرث من ضعف الثقة وقلق واقعي وخوف من تحولات المستقل القادم.
وهو ما يتطلب من هذه التيارات بذل مجهود سياسي أكبر لتطور رؤية سياسية تستجيب لخصوصيات السياسة السعودية والخليجية من أجل توظيفها واستيعابها لخدمة الموقف الإقليمي في المنطقة، وخصوصا وضعية مقاومة المد الإيراني من جهة والمشروع الصهيوني من جهة أخرى، والسعي للوصول رؤية لدور حركة الإخوان في مصر مستقبلا في سبيل تطوير حل سياسي للأزمة المصرية يؤسس لاستقرار حقيقي يؤمن للمنطقة وقف التدهور والبحث عن حلول سياسية غير الحروب التخريبية والإرهاب، من أجل تأسيس وضع مستقر يسمح للإسلاميين بدور ديمقراطي معقول في طور الممكن السياسي في ظل ميزان القوة الراهن.