لا توجد قواعد تضبط الأداء العام
كل شيء قلق ومحل تساؤل
القلق طبيعي عند المنعطفات الحادة والتساؤل من طبيعة الخشية على مستقبل البلد كله.
في غياب أي قواعد دستورية تحترم، من غير المستبعد تماما اختطاف «يونيو» كما اختطفت «يناير».
بين اختطافين عانت مصر فوق طاقتها على التحمل.
لم تتصدر الجماعة مشاهد «يناير».
كانت آخر من دخل الميدان وأول من غادره لكنها طلبت «التكويش» على السلطة.
وقد دفعت الثمن باهظا.
ولم يلهم الماضي مشاهد «يونيو».
توارى إلى الظلال ولم يكن أحد يريد أن يراه، لكنه يطلب الآن الجوائز كلها.
وسوف يكون السقوط مرة أخرى مدويا.
تآكل الرهانات الكبرى على الانتقال إلى مجتمع ديمقراطي وعادل يشجع العنف على التمدد.
لا يمكن أن تستمر الأوضاع الحالية على ما هي عليه.
تقدم الماضي يصادر المستقبل في بلد لا يحتمل مرحلة انتقالية ثالثة.
لا يوجد بديل آمن سوى إقرار القواعد وحسم التصورات.
أن تكون هناك قرارات على ذات مستوى الخطر تضع حدا لمراكز القوى العائدة في السياسة والاقتصاد والإعلام والأمن.
لا توجد قرارات من مثل هذا النوع.
فلا إصلاح في الجهاز
الأمني رغم أن انفلاتاته تكاد تصيبه في صلب دوره.
ولا إصلاح في الجهاز القضائي وفق القيم الدستورية رغم ما ألم به من صدوع تهدد بنيانه التليد.
ولا إصلاح في الجهاز الحكومي الذي جرى تخريبه بالكامل تقريبا.
ولا إصلاح في البنية السياسية يسمح بتعددية حقيقية وأن يكون البرلمان المقبل ممثلا لحيوية المجتمع وحركته لا لقوة المال السياسي.
في غياب أي إصلاح وأية قواعد قد نصل بالضبط إلى النقطة التي تطلبها جماعات العنف والإرهاب.
أن تظل الدولة معلقة في الهواء.
الذين يطلبون العودة بقوة المال والنفوذ ينسون أن المجتمع المصري تغير بعمق.
أن وجودهم ذاته تحريض على العنف والإرهاب.
رغم التجربة المريرة فإنهم لم يتعلموا شيئا ويكررون الأخطاء نفسها.
كان نظام «حسني
مبارك» هشا ينتظر هبّة ريح كي يتقوض بالكامل.
الشيخوخة السياسية دبت في مفاصله رغم دعايات «الفكر الجديد».
سدت القنوات السياسية وبدا أن الإصلاح من داخل النظام وهم مفرط بعد التزوير الفاحش للانتخابات النيابية عام (2010).
توحشت الآلة البوليسية، وتصدر وزير الداخلية اللواء «حبيب العادلي» المشهد الجديد، باعتباره الرجل القوى في نقل السلطة من الأب إلى الابن.
بالغ الحرس الجديد في «لجنة السياسات» من قوة الحزب الوطني التي ناهزت عضويته (2?.?8) مليون، غير أن كل شيء انهار في أيام.
لا الآلة البوليسية صمدت ولا «الوطني» تصدى.
واجه النظام مصيره بلا مقاومة تقريبا.
دفع ثمن استهتاره بأية قيمة جمهورية، فمصر ليست عزبة تورث.
ودفع ثمنا مماثلا لتوحش الفساد ونهب المقدرات العامة.
كان هناك من يتصور أن الانعزال في منتجعات سكنية على أطراف العاصمة يضمن أمنا أكبر فيما لو نشبت اضطرابات اجتماعية تتولى عصا الشرطة الغليظة قمعها.
لم يكن أحد من القوى الاقتصادية المتنفذة يستبعد تمردا ما أو خطرا مفاجئا.
كل ما خطر ببالهم في التحسب لمثل هذا اليوم أين تودع الأموال في الخارج بأمان وكيف يغادرون مصر بسرعة.
كانت المطارات الخاصة كلمة السر في هذا النوع من التفكير.
في أجواء الثورة التونسية قبل «يناير» مباشرة قال أحد الذين اعتادوا بحكم عملهم زيارة الرئيس الأسبق من وقت لآخر: «إحنا خايفين يا فندم».
سأله على الفور: «أنتم مين؟».
أجابه الذين يمتلكون ثروات يخشون عليها، وقد لا يجدون أمامهم فرصا للخروج الآمن.
كان رد «مبارك» صاعقا: «أنا اللي حاميكم».
لكنه فشل أن يحمي نفسه.
من المثير أن الرجل الذي خشي على ثروته من الحساب تولى موقعا وزاريا في وقت تال.
هذه تراجيديا كاملة.
الأكثر إثارة أن «رأسمالية مبارك» لم تخف استعدادها لبناء شراكات اقتصادية مع رجال أعمال الجماعة.
في عمق الخيارات الاقتصادية لم تكن هناك فروق تذكر بين حكم «مبارك» وحكم «الجماعة».
بهذا المعنى فإن الاختطاف الثاني من طبيعة الاختطاف الأول ذاتها.
في الاختطافين مصادرة لأي أمل في الانتقال إلى مجتمع ديمقراطي حر يتبنى العدل الاجتماعي.
غابت القواعد تماما وانفسحت الفرص أمام المختطفين.
مرة بقوة التنظيم والسلاح ومرة أخرى بقوة المال والنفوذ.
في الأولى انهارت أية قواعد دستورية وفي الثانية نحى الدستور نفسه.
في تجفيف السياسة مشروع تصدع مؤكد.
رغم أية اجتماعات رئاسية مع الأحزاب فإنها تفتقد أي زخم أو معنى، فأغلب الأحزاب المدعوة هامشية وموضوع الحوار لا يقترب من أية قواعد لابد أن تستقر.
ليس دور الرئيس أن يطلب من الأحزاب أن تتجمع في قائمة انتخابية واحدة بقدر أن تكون هناك قواعد تضمن نزاهة الانتخابات وفق قوانين تمكن الأحزاب من خوضها.
عندما تغيب القواعد فإننا أمام خطرين داهمين في وقت واحد، كل منهما يضفي شرعية على الآخر.
فساد الماضي يضفي شرعية على الجماعة ويزكي عنفها.
وعنف الجماعة يبرر للماضي تحالفه مع بعض الأمن وصراخه الإعلامي.
بين اختطافين تكاد أن تنزلق مصر إلى حروب في الظلام.
تسطيح الحقائق الكبرى يفضى بنا لا محالة إلى الطرق المسدودة.
لا الاختطاف الأول صمد طويلا ولا الاختطاف الثاني مرشح لأي صمود.
عقلية لجنة «السياسات» التي تهيمن على التفكير الحكومي نهايتها معروفة.
تأجيل الضريبة على الأرباح الرأسمالية في البورصة يلخص أزمة القرارين الاقتصادي والسياسي معا.
بحسب معلومات مؤكدة فإن وزير المالية اعترض على قرار التأجيل ورئيس الجمهورية تقبله بصعوبة تحت إلحاح وزراء آخرين في المجموعة الاقتصادية.
فضيحة كبرى أن المؤسسات المالية الدولية انتقدت قرار التأجيل، كأنها على يسار حكومة يمينية متوحشة.
وكأن القيم الدستورية تمسح بها أرضية اجتماعات المجموعة الاقتصادية الحالية.
هذا مجرد مثال على تدهور النهج الاقتصادي وتغول مراكز القوى الاقتصادية على أي نزعة للعدل الاجتماعي.
بعبارة أخرى لا توجد قواعد لنظام اقتصادي جديد يستجيب للدستور، وهذه بوادر أزمات اجتماعية لا يمكن تجنبها، لا بقوة الأمن ولا بصراخ الإعلام.
بقدر اتساق السياسات مع الدستور وقطع الطريق على الاختطاف الثاني فإنه يمكن تجنب مصائر مرعبة.