أصرّت العجوز الفلسطينية "أم إياد العِجْلة"، على تناول طعام الإفطار مع أفراد عائلتها، قبالة
ركام منزلهم المدمر شرق مدينة
غزة، لأنها ترى في ذلك الوسيلة الوحيدة لاجتماع كافة أفراد العائلة التي شتَّتَت الحرب الأخيرة شملها.
وقبل موعد الإفطار بعدة ساعات، اجتمع أبناء "العِجْلة" الخمسة وأطفالهم مع والدتهم العجوز، أمام ركام منزلهم وسط حي الشجاعية شرق مدينة غزة، الذي اعتادوا على تناول طعام الإفطار سويا فيه.
وتعرض منزل "العِجْلة"، للتدمير خلال الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، صيف العام الماضي، الأمر الذي تسبب بتفرق أفراد العائلة، حيث اضطروا لاستئجار منازل في مناطق متفرقة من المدينة.
وشنت إسرائيل في السابع من تموز/ يوليو الماضي حربا على قطاع غزة استمرت 51 يوما، أدت إلى استشهاد أكثر من ألفي فلسطيني، وإصابة نحو 11 ألفا آخرين، وفق وزارة الصحة الفلسطينية، فيما أعلنت وزارة الأشغال العامة والإسكان الفلسطينية، أن إجمالي الوحدات السكنية المتضررة جراء هذه الحرب بلغ 28366.
ورغم مرور قرابة عام على انتهاء الحرب، إلا أن عملية إعادة إعمار المنازل المدمرة لم تبدأ بعد، بسبب العراقيل التي تضعها إسرائيل ومصر والسلطة الفلسطينية في وجه إدخال مواد البناء.
وما إن اجتمع أفراد العائلة حتى بدأت والدتهم العجوز بإعداد الطعام، وانشغل الأطفال باللهو على أطلال المنزل، فيما اكتفى الإخوة بالجلوس على "حصير"، أحضروه خصيصا معهم، وبدأوا بالاطمئنان على أحوال بعضهم البعض، بعد مرور فترة طويلة على آخر لقاء جمعهم.
وبينما انشغلت الجدة "أم إياد"، في تقشير بعض ثمار "البطاطا"، فقد تحدثت عن معاناة عائلتها بعد قصف منزلها خلال
الحرب الإسرائيلية الأخيرة.
وقالت: "كنا نعيش في منزلنا بأمان، ونجتمع على مائدة واحدة إلى أن تفرقنا بعد تدمير المنزل".
وتضيف: "ما زلنا نشعر بالحنين إلى بيتنا رغم تدميره، فقررنا أن نأتي كل يوم هنا خلال شهر رمضان ونتناول طعام الإفطار لنستعيد ذكرياتنا".
تلك الجلسة الهادئة للإخوة الخمسة التي استمرت قرابة الساعتين، أنهتها والدتهم العجوز بالنداء عليهم بصوتها المنهك، فلم يبق الكثير على موعد "أذان المغرب"، ولا بد لهم من الاستعداد، وجمع أطفالهم الذين أنسى اللعب الصائمين منهم موعد الإفطار.
وقُبيل موعد أذان المغرب، وعلى بعد أمتار قليلة من ركام المنزل الذي كان يؤوي قبل عام واحد فقط، خمس أُسر صغيرة بين جدرانه التي باتت مجرد حجارة متناثرة، تحلّق أفراد العائلة مع أطفالهم حول مائدة إفطارهم، ليبدأ بعضهم بالدعاء، فيما اجتهد آخرون في منع الصغار من العبث بأطباق الطعام.
"يلا افطروا ومتنسوش الدعاء"، بهذه الجملة أعقبت الأم العجوز صوت "أذان المغرب"، ليسارع بعدها الأطفال الصائمون إلى شرب أكواب المياه بسرعة فائقة، ويتلقفوا ملاعقهم ليبدأوا بتناول أطباق وجبة (المقلوبة) التي تعد من أشهر الأكلات الشعبية الفلسطينية، التي اعتاد الغزيون على إعدادها يوم الجمعة من كل أسبوع.
عشر دقائق كاملة مضت قبل أن ينتهي الجميع من تناول طعامهم، ليسارعوا بعد ذلك لأداء صلاة "المغرب"، ويواصلوا جلستهم الليلية، التي لم تخل من ضحكات الأطفال المرحة.
وحاول بعض أحفاد الجدة "أم إياد" تنشيط ذاكرتها، باستعادة أحداث قديمة وقعت في المنزل قبل تدميره، حيث داعبها أحدهم بقوله: "هل تذكرين يا جدتي حينما حفرنا حفرة أمام المنزل، ووقعت أنت فيها"، لتجيب عليه جدته بضحكة عفوية، وتقول: "نعم، وبعدها بقيت نايمة في الفراش أكثر من أسبوع بسبب وجع رجلي".
وبينما انشغل الجميع باستعادة ذكرياتهم، التي حركت عاطفة الجدة، لتنهمر دموعها، أشعل أحد الأطفال "مفرقعة" صغيرة، وألقى بها وسط الجلوس لتنفجر وتفزعهم قبل أن ينفجروا جميعا بالضحك.
ساعات امتزجت بالضحك، والشعور بالألم، عاشتها عائلة "العجلة" على أطلال منزلها، قبل أن يقرروا الافتراق، ويعود كل منهم مع أطفاله لمنزلهم في أنحاء المدينة المحاصرة، والدموع تحتبس في عيون والدتهم العجوز التي تخشى الرحيل عن الدنيا، دون أن تعود لتجتمع مع أبنائها في بيت واحد، في ظل تعطل عملية إعادة إعمار ما دمرته الحروب الإسرائيلية على غزة.