الصهيونية لا تصنع الأحداث لكنها تستغل أخطاء الآخرين، وهذا بالضبط سر قوتها ومكمن خطورتها خاصة بعد تحالفها مع اليمين المسيحي الجديد، ولهذا السبب نجدها تتحكم في مفاصل السياسة والاقتصاد العالميين.
فهي اليوم من يسير الحكومات ويرسم لها توجهاتها مستغلة أخطاء السياسيين وهفواتهم من خلال لوبيات ضغط متخصصة ومنظمة تمتلك كافة الأدوات من ومال وإعلام وجنس.
كان يمكن للولايات المتحدة أن تسقط بشار الأسد في أيام معدودات وكانت بالفعل على وشك أن تساعد في إسقاطه، لكن كان لليهود رأي آخر، فتوقف الزخم الأمريكي الداعي لتنحي الأسد واستُبدِلَ بالتسويف والمماطلة والكذب إلى أن خرجت الأمور عن السيطرة ووصلت نقطة اللاعودة.
في السياسة اللاأخلاقية لا يوجد عدو دائم ولا صديق دائم بل مصالح دائمة، وعدو الأمس يمكن أن يكون صديق اليوم لأن لغة المصالح هي اللغة المفهومة التي لا تحتاج إلى ترجمة، وأرباب السلطة والطامحون لها يتقنون هذه اللغة تماما، وبالتالي فمن السهل التوافق فيما بينهم، ولا مشكلة في التخلي عن الشعارات والمبادئ التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
في التسريبات الأخيرة الخاصة باجتماع كامب ديفيد ظهر توجه طرحه أوباما وتبناه بعض الحضور العرب ويقضي بأن الوقت لم يحن لإسقاط الأسد فهو لا يشكل خطرا إقليميا أو دوليا على أحد وبالتالي فمن الصواب عدم إضعافه بل يجب التحالف معه وإن ضمنيا والعمل على توحيد جهود الجميع في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية وباقي التنظيمات الجهادية ثم وبعد ذلك يمكن التفكير في العمل على إيجاد تركيبة حكم لا تضم الأسد.
يقال إنه إذا أردت أن تفسد ثورة فأغدق عليها المال، فالمال هو كلمة السر التي تفتح الكثير من الأبواب الموصدة، وتستطيع من خلاله تغيير المعادلات والإيديولوجيات والتحالفات والشعارات وحتى المبادئ، والسلطة مع المال هما عصب الحياة فبالسلطة تستطيع الحصول على المال وكذلك المال يستطيع أن يشتري لك السلطة وكل ما تحتاج إليه هو أشخاص طامحون للمال والسلطة.
لم تجد الولايات المتحدة كبير عناء في خلط الأوراق، فدعمت الكرد بالمال والسلاح والتدريب والدعم الجوي، وسمحت للمرتزقة الأجانب بالقدوم إلى
سوريا والقتال إلى جانب وحدات الحماية الكردية، وكذلك فعلت مع الميليشيات الشيعية التي تعد بالعشرات، وعملت على تشكيل مجموعات سورية مسلحة تتولى هي تدريبها وقامت باستمالة فصائل أخرى وسيطرت على قرارها من خلال غرفتي "الموم" في تركيا و"الموك" في الأردن، وأعادت إحياء تجربتها العراقية بإنشاء الصحوات ومجالس العشائر حتى وإن كانوا من الصفين الثاني والثالث.
حدث هذا في ظل صمت مطبق عما يرتكبه الأسد من جرائم فاقت كل حد أو تصور فمن الذبح إلى الحرق والتعذيب وصولا إلى الصواريخ والطائرات والكيميائي وألاف البراميل التي تطورت لتصبح حاويات متفجرة تلقى على رؤوس السوريين العزل صبح مساء.
إذا هي الشَرذَمَةُ ووضع الكل في مواجهة الكل وجعلهم بحاجة ماسة إلى الدعم والغطاء الإقليمي والدولي وهو ما سَهَلَ انقياد الجميع وخضوعهم لمعادلة ما يسمى القرار الدولي في الممكن واللاممكن، فتوقفت معركة عاصفة الجنوب في مدينة درعا، وفشلت معركة تحرير مطار الثعلة العسكري، ومنعت بعض الفصائل من التعامل مع جيش فتح الجنوب المشكل حديثا.
أما جيش فتح إدلب فتوقف عند حدود اللاذقية واستدار عائدا باتجاه سهل الغاب، بينما سُمِحَ لنظام الأسد وحليفه اللبناني باستباحة مدينة الزبداني الصغيرة ودكها بألاف الصواريخ والقذائف والبراميل المتفجرة ومن على طرفي الحدود.
كثيرة هي المؤشرات التي تدل على تغير المواقع والتحالفات في رقعة الشطرنج السورية وليس أدل على ذلك من الاتفاق الأمريكي التركي على استخدام الطائرات الأمريكية لقاعدة إنجيرلك الجوية فمعارك الحسكة والجزيرة السورية تقتضي سرعة التحرك والمناورة، والمتتبع لسير المعارك سيلاحظ وبكل تأكيد توزيع المهام بين الحلفاء فطيران التحالف الدولي يتولى التعامل مع الأهداف التي تحتاج إلى دقة وفاعلية كنقاط تمركز قوات تنظيم الدولة وقوافل إمداها بينما يتولى النظام القصف التدميري العشوائي أمام قواته المدعومة بما يسمى وحدات الحماية التركية الفرع السوري من حزب العمال الماركسي التركي.
لسنين خلت كانت أنظمة الاستبداد تُمارس علينا سياسات التجهيل بحقيقة ما يجري، أما اليوم فنحن الذين نمارس على أنفسنا سياسة تصديق كل الخدع التي يخبرنا بها الإعلام الأصفر الذي ألبس على الناس أمرهم وزيف التاريخ والحقائق وحرف البوصلة عن هدفها.
إننا نقف اليوم جميعا على مفترق طرق أسهلها أشدها وعورة وأقصرها أكثرها طولا، ومع ذلك فلا يبدوا أن في نية اللاعبين الكبار تعبيد أي من هذه الطرق الوعرة، فكل ما يقومون به هو عملية إدارة أزمة وهروب إلى الأمام، وحلف جديد يتشكل جمع الأضداد من أعداء وأصدقاء، فالعداء في
اليمن يمكن أن لا يشكل عائقا أمام التقاء المصالح في سوريا والعراق، والملف النووي
الإيراني يجب أن يجد حلا فالأولوية هي لتوفير سيولة مالية للحليف الموثوق إيران الغارقة في المستنقع العربي حتى أذنيها وباتت تحتاج إلى رفع الحصار التجاري عنها، وسيرفع، فطريق تحرير القدس بحسب وكيلها نصر الله يمر عبر تحرير المدن السورية من أهلها كي تبقى القدس يهودية إلى يوم يبعثون.. لكنه لن يكون، ففي الشام شعب لا يكسر ولا يموت!