قام أخيرا الرئيس السبسي بإعلان مشروع قانون ما يسميه "
المصالحة الوطنية"، وعرضه على مجلس الوزراء هذا الأسبوع. قدم ذلك على أنه شرط ضروري لمحاربة
الإرهاب. بيد أن الفساد في
تونس بما في ذلك الرشوة المعروفة باصطلاح "افرح بية" هي مدخل للإرهاب وتطبيعها ترسيخ له، وليس العكس.
في الأثناء يتم وضع اللمسات الأخيرة على قانون المالية التكميلي الذي سيمثل ترجمة لرؤية الائتلاف الحكومي الرباعي في المسائل الاقتصادية والاجتماعية. وهنا أيضا نحن بصدد تعميق الفوارق الاجتماعية. وبالتالي توفير أرضية أخصب للإرهاب.
لنتابع مختلف الحجج بتأنّ.
مبرر السبسي لقانون "المصالحة الوطنية" أن "مكافحة الإرهاب" تقتضي "التفافا وطنيا"، ومن ثم "طي صفحة الماضي"، مما يعني "المصالحة مع المتحيلين من الأصناف المختلفة. فهل يستقيم هذا المنطق؟
ما هي الرسالة التي يوجهها القانون لمن تورطوا في الفساد مثلا في الديوانة، خاصة عندما نعلم جيدا أن جزءا كبيرا من التهريب -بما في ذلك تهريب المواد الخطرة التي يمكن أن يستفيد منها الإرهاب- لا تتم عبر الطرق الجانبية، بل عبر الممرات والمعابر الرسمية. حتى إن الوافدين الليبيين يتندرون بقائمة تعريفات حول ثمن مرور السيارة أو الشاحنة دون أي تفتيش عبر المعابر.
هذا الأسبوع فقط، كان هناك حالة تخص حوالي سبعين شاحنة محملة بأوراق مزورة وبتواطؤ واسع مع موظفين في الديوانة تنشط في شبكة واسعة، من المشتبه أنها تخدم حتى إرهابيين، وليس مهربين فقط. الرسالة التي يتم إرسالها هو أن هناك دائما فرصة أخرى لمن يتورط في الفساد؛ ليتم تبييضه، وليفلت من العقوبة بأخف الأضرار.
المشكل هنا ليس في مبدأ المصالحة، بل في كيفيتها. إذ إن أي عدالة انتقالية تتضمن إجراءات مصالحة، وذلك قائم فعلا في الأحكام الانتقالية للدستور، و"هيئة الحقيقة والكرامة"، الهيئة الدستورية المعنية بذلك، تقدمت أشواطا، وبقيت تنتظر مصادقة الحكومة على ترتيباتها الإجرائية في المصالحة. لكن التمعن في قانون السبسي يحيلنا على مؤشرات واضحة على التلاعب، وأن الهدف هو ترضية من احتضن حزبه، وأوصله لسدة السلطة بالأموال المشبوهة.
فيما يلي بعض المؤشرات:
-هناك تدخل فاضح للسلطة التنفيذية في لجنة التحكيم، يصل حتى تعيينها في تضارب صارخ مع معايير التحكيم الدولية، بما يحيل بالضرورة على استعمال المحاباة حسب القرب من السلطة السياسية في تصفية الملفات.
-فوق ذلك، وحسب الفصل الخامس تقدير الأموال المستولى عليها، يتحدد أساسا حسبما يرد في تصريح طالب العفو (التحقيق "ممكن" لكنه ليس ضروريا، ويصبح مستحيلا بسبب آجال الستة اشهر لتصفية آلاف الملفات). والثمن الذي يدفعه طالب الصلح هو "نسبة 5 بالمئة على كل سنة من تاريخ حصول" عملية الفساد.
-الرجل كأنه وقع انتخابه تحديدا لهذا الموضوع، حتى مناسبات العمليات الإرهابية الدموية كانت للأسف الفرص الزمنية (مثلما تقتضيه "استراتيجيا الصدمة") لإعلان هذا الموضوع والمبادرة العملية به، سواء بعد عملية باردو، أو سوسة الإرهابيتين كانت ردة الفعل الأساسية، وإنجازه العملي الأساسي السريع إعلان مبادرة "المصالحة" (مع الفساد)، وذلك في 20 مارس، والآن بتقديم مشروع المصالحة نفسه لمجلس الوزراء في اجتماع خارق للعادة في قصر قرطاج؛ إذ لم يترأس السبسي بصفته رئيسا للجمهورية بعض الاجتماعات الوزارية في اختصاصه أي الأمن والدفاع بالمناسبة.
في الحقيقة هناك سياسة محاباة واضحة لنخبة أعمال أصبحت تملك جزءا لا بأس به من الطبقة السياسية، وهي نخبة تزداد غنا رغم تأزم الوضع في البلاد. وحسب تقرير سنة 2015 "New World Wealth" لمكتب دراسات بريطاني، فإن في تونس الآن 70 مليارديرا يملكون ما يعادل 37 مرة ميزانية الدولة التونسية. في حين تتصدر تونس قائمة الدول المغاربية في عدد المليونيرات بما يعادل+ 6500 مليونيرا، متقدمة على ليبيا (6400) والمغرب (4900) والجزائر (4100)، وتأتي ضمن العشرة الأوائل أفريقيا.
وهذا الأسبوع تحديدا، وبالتوازي مع مشروع "المصالحة"، يتم مناقشة تقرير التدقيق في البنوك العمومية التي تعيش إفلاسا تحديدا بسبب "رأسمالية المحاباة" التي سادت قبل الثورة، والتي سمحت لعدد من المقربين من عائلة الحكم للحصول على قرض دون ضمانات أو لمشاريع لم يتم دراستها بالشكل الكافي(خاصة في القطاع السياحي)، ما أدى إلى التسبب في دفع البنوك العمومية إلى حافة الإفلاس، ومن ثم تحمل دافع الضرائب لتلك التكلفة عبر ما يسمى "إعادة الرسملة" (المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي)؛ إذ سيدفع نيابة عن المسؤولين عن النهب ما قيمته مليار دينار تونسي ليغطي عجز البنوك العمومية، ثم سيتم خصخصة جزء منها، وربما شراء هذه الأسهم من المتحيلين.
ليس المشكل في دعم الأغنياء، بل في دعمهم مقابل تحميل بقية فئات المجتمع أعباء الأزمة. وهذا تحديدا لا يمكن إن يرسل رسالة دولة عادلة يمكن أن تضمن وحدة وطنية في مواجهة الإرهاب.
إذ إن سياسة الحكومة تجاه الأجراء وذوي الدخل الضعيف والمتوسط ستكون على الأرجح في الاتجاه المعاكس، ليس فقط في مشروع "إعادة رسملة" البنوك العمومية، بل أيضا في قانون المالية التكميلي حسب التسريبات الأولية.
أحد المتكلمين باسم أحزاب التحالف الحكومي الأربعة صرح بشكل واضح أنه سيتم تقليص "التحويلات الاجتماعية"، وما يشابهها، للتحكم في عجز الميزانية. يضاف إلى ذلك تسريبات عن إضافة ما يعادل 6 بالمئة من الضريبة على الدخل بداية من سنة 2016، مقابل تخفيض ضريبة المؤسسات الخاصة إلى النصف.
ورغم أن الجزء الأكبر من العبء الضريبي يتحمله الأجراء (ما يفوق 40 بالمئة)، فإن التهرب الضريبي لأصحاب المؤسسات والمهن الحرة يصل إلى 50 بالمئة، أو ما يعادل حسب بعض الخبراء 9900 مليار دينار سنويا.
هذه المقاربة الضريبية التي تتجاهل التهرب الضريبي، وتواصل التركيز على امتصاص أصحاب الدخل الضعيف والمتوسط، تبدو متوافقة مع إيديولوجيا مكتب الدراسات الذي أعد الإصلاح الجبائي التونسي أي مكتب ديلوات (Deloitte).
خطاب الحكومة عموما، والسبسي وحزبه خصوصا، يطلق الكثير من الغبار تحت مسمى "الوحدة الوطنية" و"مكافحة الإرهاب"، غير أن أهدافه لا تركز على مقاومة الإرهاب، بل أشياء أخرى. وهنا قام بإصدار مرسوم للطوارئ يركز على مواجهة الاحتجاجات الاجتماعية، وليس الإرهاب. وعندما قامت لجنة المصادرة المستقلة بمصادرة أموال أحد أصهار بن علي تم طرد مقرر لجنة المصادرة.
نعم، يجب أن تتحلى الدولة بالصرامة، وتطبيق القانون وفرض هيبتها. لكن صرامة بدون عدالة تقويض مباشر للوحدة الوطنية ومعاني التضامن. وعمليا تطويع الدولة لمصلحة لوبيات على حساب المصلحة الوطنية العليا. ولا يمكن أن نكافح جديا الإرهاب بهذه المقدمات.