"مربط الفرس" في أزمة الشيخ
محمد جبريل، ليس في
الدعاء على الظالمين، الذين استباحوا الدماء، ولا في الدعاء بأن ينتقم الله من الإعلام الفاسد، ولكن في الذين أمنوا على هذا الدعاء وقالوا: آمين!
بدا الشيخ في دعائه وكأنه داس على الجرح، فكانت "آمين" مرتفعة نسبيا عند هذا الدعاء، وخرجت باكية حزينة، وكاشفة عن ما في بطن الداعي، بالظالمين القتلة، والإعلام الفاسد!
الصور التي نشرت للمصلين بداخل المسجد وخارجه، توحي بأنهم عشرات الآلاف، وكأنهم لم ينقصوا مصليا واحدا من الذين كانوا يشدون الرحال من القاهرة الكبرى إلى مسجد عمرو بن العاص في السنوات الماضية، ليصلوا التراويح خلف الشيخ جبريل.
وفي اليوم التالي، وبعد منع الشيخ من الإمامة، تناقصت الأعداد بشكل كبير، على النحو الذي نقلته الكاميرا، فكنا أمام صور أبلغ من أي كلام!
في الصورة الثانية، لم يكن هناك مصلون خارج المسجد من الذين كان يمتلئ بهم الفراغ المحيط به والشوارع الجانبية، ومن صلاة المغرب، والبعض كان يحجز له موقعا داخله في اليوم السابق.
بل إن المسجد في هذه الصورة كان في داخله شبه فارغ إلا من عدة صفوف، وهناك من أظهرتهم الصورة نياما، خلف صفوف المصلين؛ ليسوا مكترثين بصلاة الإمام الموفد من وزارة الأوقاف بديلا للشيخ محمد جبريل، لتمثل الصورة استفتاء على إمام السلطة وإمام الشعب. وفي اعتقادي أن كثيرين من الذين صلوا وراء الإمام المرسل، لم يكن هذا من باب تأييدهم له، أو موافقتهم عليه، ولكن من باب إحياء سنة صلاة التراويح ليس إلا!
لا أعرف أعداد من صلوا وراء الشيخ محمد جبريل، والذين ما إن دعا على الظالمين والإعلام الفاسد، حتى بلغت القلوب الحناجر، وهم يهتفون: آمين، لكن مصادر من سلطة الانقلاب أكدت عبر فضائيات الثورة المضادة، أنهم تجاوزوا المليون مصلّ، ومن القاهرة الكبرى وحدها!
وهو مشهد، ذكرنا بجنازة الزعيم
المصري الراحل مصطفى النحاس، ورد فعل جمال عبد الناصر وأجهزته الأمنية على من شاركوا فيها!
عقب حركة ضباط الجيش في تموز/ يوليو 1952، اعتبرت الحركة أن حزب الوفد عدوها الرئيس، لما يمتلكه من شعبية جارفة في الشارع، وعليه فقد كان قرار حل الأحزاب السياسية المقصود به هذا الحزب الجماهيري، من حركة تخطط لأن تكون لها زعامة الشارع، وتخشى على نفسها من الوفد، وأهين زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس، وتم اعتقاله، وأفرج عنه مع وضعه قيد التحفظ بمنزله، فلا يسمح بمغادرته، ويوضع زائروه في القائمة السوداء!
وكانت حملة الإبادة، ضد الوفد وتاريخه، بهدف شيطنته، وتم تغيير كتب التاريخ المقررة على المدارس لتحريف هذا التاريخ، وجاب الزعيم الأوحد جمال عبد الناصر البلاد طولا وعرضا، ودغدغ مشاعر الناس، حتى بدا كما لو كان المصريون قد نسوا الوفد، ونسوا زعيمه، وتمدد في وجدانهم عبد الناصر، لا ينازعه في الفراغ أحدا!
وقد نسي عبد الناصر نفسه، ومجموعة الضباط الشبان، النحاس، فلا زعيم إلا زعيمهم ولا قائد غيره، وبعد ثلاثة عشر عاما، وفي آب/ أغسطس 1965، مات مصطفى النحاس، فإذا بالآلاف ممن امتلأت بهم القاهرة خرجوا يشيعون جنازته، ورغم القمع، والاستبداد، هتفت الجماهير: "لا زعيم إلا النحاس"، وأُرتج على عبد الناصر، وهو يقول: هل يوجد من يتذكر مصطفى النحاس إلى الآن!
فقد النظام المستبد أعصابه، واختطف النعش، لكن الجماهير واصلت المسيرة وصلت عليه وشيعته إلى مثواه الأخير، وتم اعتقال أكثر من عشرين ألف مشيع بالإضافة إلى زعماء حزب الوفد الذين شاركوا في الجنازة. وكما فوجئنا الآن بجريمة اسمها الدعاء على الظالمين يمنع مرتكبها محمد جبريل من السفر، فقد كان الاتهام الذي ابتدعه عقل العسكري في سنة 1965، هو المشاركة في تشييع جنازة.. عباقرة هؤلاء العسكر، وتتجلى عبقريتهم عندما يفقدون أعصابهم!
كان عبد الناصر، بحل الأحزاب، وتزوير التاريخ، وتأميم الإعلام، وحصار زعماء الوفد، ومطاردة الإخوان المسلمين، وبالتعذيب غير المسبوق، وفتح السجون على مصراعيها حيث الداخل مفقود والخارج مولود، يظن أنها دانت له، وأن تاريخ مصر بدأ به، وأنه الزعيم الأوحد، وفلتة الزمان، وبحر المفهومية، لكن جنازة النحاس كانت صفعة مدوية له.
فالحشود التي شاركت في جنازة مصطفى النحاس باشا، كشفت عن أن شعبية عبد الناصر ليست أكثر من فعل ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى، وأنه وإن تمكن بخطاب حماسي فقد معناه بنكسة حزيران/ يونيو، من الضحك على ذقون المستضعفين والفقراء، فإنه لا يمكن أن يلغي مقامات الناس، وشعبية الآخرين، التي تجلت في جنازة مصطفى النحاس، بعد ثلاثة عشر عاما من التغييب القسري، والتشويه المتعمد.
الصدمة التي مني بها زعيم العسكر، عندما علم بأمر الحشود التي خرجت تهتف: "لا زعيم إلا النحاس"، فجاء أداء سلطته مرتبكا، هي نفسها التي مني بها "خليفته في الملاعب" عبد الفتاح
السيسي ونظامه، وأجهزته القضائية والإعلامية والتنفيذية، فلم يفزعهم الدعاء على الظالمين بقدر ما أفزعهم أعداد الذين قالوا: آمين!
وكما تساءل عبد الناصر مصدوما، عما إذا كانت الجماهير لا تزال تذكر مصطفى النحاس بعد كل الذي فعله، فلربما تساءل السيسي عن شعبية خصومه، وهناك مليون مصري يهتفون: آمين، في وجه الظالمين الذين قتلوا الأبرياء، وفي وجه إعلامه الفاسد!
لقد حارب نظام السيسي مظاهر التدين، وأمم الخطاب الديني لصالحه، واحتكر الحكمة والتفسير الديني لنصوص القرآن (راجع تفسيره المتجاوز لقوله تعالى "وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم" لتقف على حجم الخطأ والخطل في تفسيراته)، فضلاً عن حصار المساجد، وجعل من قرار تعيين إمام أو استمرار إمام لمسجد قرارا أمنيا بالأساس، كما أنه فتح السجون لمن لهم رأي يخالف رأيه، وصادر وسائل الإعلام لصالح حكمه، فيعلي من قدره بقدر ما يهدم من أقدار الآخرين، كما أنه ارتكب المذابح ضد متظاهرين سلميين، على نحو جعل من المشاركة في مظاهرة سلمية نوعا من الاستشهاد، وينبغي على من يقرر المشاركة أن يكتب وصيته قبل خروجه من منزله!
وكانت المفاجأة أنه بعد كل ما فعل، وبعد عامين على انقلابه، فإن هناك أكثر مليون مصري، اجتمعوا في صعيد واحد، ويقولون: "آمين"، في دعاء على الظالمين، الذين بدوا معروفين لمن أمنوا بالاسم والرسم، ويقولون: "آمين" عندما جاء الدعاء على من أوغل في دماء الناس. ونفس الأمر عندما دعا الداعي ضد الإعلام الفاسد!
بعد كل ما فعله عبد الناصر، الذي ظن أنه ألغى تاريخ النحاس بجرة قلم، كانت جنازته حاشدة، وكان الهتاف: "لا زعيم إلا النحاس"، وبعد ما فعله السيسي كان مليون مصري من القاهرة الكبرى وحدها يقومون بالتأمين على الدعاء عليه، وعلى نظامه، وانقلابه، وإعلامه!
في الأولى فقد "العسكري" أعصابه، واعتقل عددا من الذين شاركوا في الجنازة، ليفش غليله، على عدم قدرته على اعتقال الجثمان، أما "العسكري" الحديث فقد كان من حسن حظ الذين قالوا: "آمين"، أن الجثمان حيّ، فتم الاكتفاء به ليبدأ سيناريو التنكيل، والذي بدأ بالتشنيع الإعلامي، ثم المنع من السفر، في انتظار مصادرة الأموال، وربما الاعتقال بتهمة الدعاء في الظاهر. وفي الباطن، فإن التحرك العصبي مرده إلى أنه برغم كل ما حدث، فإنه لم يستطع السيسي أن يغيب وعي غالبية المصريين، أو يزيف هويتهم، أو أن يغير من عقيدتهم، فيتحول الدم عندهم إلى ماء، والقاتل إلى زعيم ملهم، والدين إلى أساطير الأولين.
إن "آمين" بحجم من هتفوا بها خلف الشيخ محمد جبريل، كان كاشفة وليست منشئة، عن فشل السيسي بعد عامين من انقلابه!
وأعجب لمن يطالبونه بانتخابات رئاسية مبكرة.. فهم يعتقدون فيه الغباء إلى حد أن يسلم رقبته طواعية للشعب المصري؟!
[email protected]