في أنظمة الحكم الرشيد الحديثة تتكامل جميع الأجهزة الأمنية والعسكرية والمدنية لحماية حقوق وكرامة المواطنين جميعا، دون أي تمييز بآليات تجسد النزاهة والشفافية وتخضع للمراقبة ويحتل القضاء أهمية بالغة لكونه المرجع الأخير لكل من يتعرض لانتهاك حقوقه أو إهدار كرامته، ولأنه الوسيلة الرادعة لكل من تسول له نفسه إساءة استخدام السلطات العامة في مضايقة مخالفيه أو نهب المال العام أو تجيير الصالح العام لمصالحه الخاصة...
وحين تتغول الأجهزة الأمنية على القضاء يفقد القضاء هيبته شيئا فشيئاًحتى يفقد الناس ثقتهم كاملة بمؤسسات القضاء، وتصبح مؤسسات القضاء مجرد عصا غليظة بأيدي الأجهزة الأمنية يستخدمها الأمن لتبرير القمع والاعتقالات والمضايقات. حينها تبدأ الدولة بالتحلل التدريجي وتدب فيها الأمراض الداخلية والخارجية حتى تصبح الدولة كهيكل سليمان ما دلهم على موته غير دابة الأرض.
وما تشهده بلادنا في الفترة الأخيرة من تدمير أجهزة الأمن للثقة بمؤسسات العدالة القضائية، يستدعي من جميع العقلاء وقفة جادة لتصحيح هذا الخطأ واستعادة الثقة بمؤسسات الدولة وبالدستور والقوانين. فكيف يمكن للمواطن أن يحافظ على ثقته بمؤسسات القضاء مع استمرار الاعتقالات التعسفية بعيدا عن السلطة القضائية؟ وكيف يمكن للمواطن أن يحافظ على ثقته بمؤسسات العدالة مع استمرار حالات الاخفاء القسري في السجون السرية وفضائح التعذيب؟ وكيف يمكن للمواطن أن يحافظ على ثقته بمؤسسات العدالة، مع عدم وجود معايير واضحة لتحديد الاختصاصات وطبيعة القضايا "قضية مدنية أم أمن دولة"؟ وكيف يمكن للمواطن أن يحافظ على ثقته بمؤسسات العدالة وهو يعلم أن تحويل ملفات القضايا للقضاء مرهون بإرادة جهاز الأمن؟! وكيف يمكن للمواطن أن يحافظ على ثقته بمؤسسات العدالة مع عدم السماح بالتحقيق في قضايا التعذيب وحقوق الإنسان؟!
والأدهى من ذلك أن تعيين القضاة أنفسهم يمر عبر القناة الأمنية، وأن رفع الحصانة عن القضاة قرار أمني.
في مثل هذا الوضع تتدمر الثقة بمؤسسات العدالة وعندما تتدمر الثقة بمؤسسات العدالة تتعقد الأوضاع، ويضمر بعض المظلومين والمضطهدين في أنفسهم الرغبة في الاقتصاص لأنفسهم بأنفسهم، وتتشكل بذلك بيئة خصبة لثقافة العنف والتطرف، وتتماهى الأجهزة الأمنية مع المؤسسات العامة والقضاء، وتتحول جميعها إلى أدوات للقمع والانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان.
ومع تطور حالة غياب الثقة بمؤسسات العدالة يكون المجتمع مهددا من الداخل بحالة من الفلتان الأمني وتسود ثقافة أخذ الثأر والحق باليد.
ومن هنا فإن إصلاح العلاقة بين الأجهزة الأمنية والمؤسسات القضائية واستعادة الثقة بالأمن والقضاء، يستلزم أن تكون المؤسسات الأمنية خاضعة للقانون وتوجيهات القضاء، وتكون وظيفة الأمن والقضاء حماية حقوق المواطنين وتطبيق القانون لتجسيد دول الحق والقانون.