إذا ما أثبتنا أن
الثورة التي وقعت (بصرف النظر عن توصيفنا أو تقييمنا لها) هي الحجة القصوى على فشل المشروع المجتمعي الذي كرس له
بورقيبة حياته، وإذا ما أثبتنا من جهة ثانية أن من ينسبون أنفسهم إلى بورقيبة اليوم وبعد الثورة هم أشد الناس بعدا وتدميرا لمشروع بورقيبة ذاته، لكونهم جعلوا منه جبة لطرح صراع مزيف على
التونسيين تمكنوا بفضله من العودة إلى السلطة، يمكننا أن نطرح السؤال المتعلق بقيمة ومآل مشروع البورقيبية اليوم: هل انتهت البورقيبية إلى غير رجعة أم أن عنصرها الفاعل ظل رغم كل ذلك حيا؟ وبعبارة أخرى: ما الذي بقي حيا وفاعلا في البورقيبية رغم سقوطها؟.
لا يمكن في سطور قليلة تلخيص مشروع البورقيبية، ولكن من الممكن تحديد بعض علاماتها الهامة التي تمكن فعلا من تقييم أدائها وخاصة رصد وحصر ما بقي حيا وفاعلا بالنسبة للثورة.
في هذا السياق يمكن القول إن البورقيبية هي بالأساس صياغة مهتزة، ولكنها حاسمة لمشروع مدني للمجتمع التونسي في مقابل عسكرة المجتمع، كما وقع في مصر أو إعادة إنتاج البيعة كما في السعودية، أو تمديد لنمط ملكي لا دستوري كما في المغرب.
في مقابل كل هذه الأنماط سعى بورقيبة، ونجح في ذلك إلى إرساء نظام حكم جمهوري تنبع فيه الشرعية من الشعب في ظرف وجيز، وفي ظروف غاية في التعقيد. في مقابل سلطة ملكية ذات تاريخ تليد وتأصل في عمق أعماق الشعب التونسي تمكن بورقيبة من إرساء نظام حكم جمهوري في تطور نوعي في المجتمع التونسي.
هذا النفس المدني هو منبع الثورة التونسية، ومن هذه الجهة فإن ما انهار من البورقيبية هو ما سعى إليه بورقيبة نفسه فيما بعد من تحويل للطابع المدني الجمهوري للشرعية إلي سلطة مطلقة تتجاوز في سيطرتها الملوك، والعسكر، لكونها تعتمد على أسطورة القائد الملهم. هنا بالضبط أنقذت الثورة بورقيبة من نفسه، ومن البورقيبيين أنفسهم فهي لم تكن انقلابا دمويا، ولم تنصب المشانق والمحاكم الثورية، وإنما كانت مسارا ثوريا سلميا حقق مكاسب مهمة دون أي تطرف.
في التطور اللاحق أيضا أثبتت الثورة أنها وفية للبورقيبية من خلال فصل المشروع السياسي المدني لبورقيبة عن مختلف أشكال التوظيف الجهوي والطبقي والاقتصادي بإعادة صياغة أساس هذا المشروع المدني أي فكرة الشعب التونسي صاحب الهدف الموحد والهوية الواحدة.
البورقيبية هي أيضا إعادة صياغة لدور الدين في الحياة العامة، وفي هذه النقطة أيضا ظلت الثورة وفية للمشروع البورقيبي ولكن دون بورقيبة في التفاصيل من المفيد الإشارة إلى أن مدنية الدولة التي أثبتتها الثورة تتعارض مع التصورات الإصلاحية المعاصرة حول الدولة الإسلامية أو أسلمة الدولة بالمعني المباشر للعبارة.
فلقد أثبتت الثورة أن الدين في المعنى الشعائري للعبارة يظل حكرا على الدولة ضمانا ورعاية، وهو ما يفسر فشل الآراء السلفية المتشددة في محاولتها للسيطرة على المساجد، وفي المقابل يظل الدين من حيث القيم التي يحتويها والفاعلة في المعيش اليومي للتونسيين محل نقاش عام لا يمكن الجزم بالحسم فيه بوجود أجيال الاستقلال المتشبعة بفكرة الدولة المدنية، ويستلزم الأمر على الأرجح أجيالا أخرى لم تشهد التأسيس حتى يمكن الفصل في هذا الأمر.
وفي هذا المعنى ظل الدين قيما وتصورات محل تنازع بين المجددين الذين ينسبون التجديد لبورقيبة وبين الإسلام الرسمي الذي ترعاه الدولة وتمنع دخوله الحياة العامة. في المقابل حررت الثورة التونسيين من التعصب البورقيبي ضد مظاهر التدين وبصفة أعم الحريات الدينية، ومن هذه الجهة لم يعد من المبرر الحفاظ على تصورات متطرفة ترى الجهل والتخلف في كل مظاهر التدين، هنا أيضا تثبت الثورة التصور البورقيبي الأصلي وتحرره من رفض بورقيبة نفسه للحريات الدينية بما هي جزء لا يتجزأ من الحريات العامة.
البورقيبية هي أيضا وخاصة برنامج سياسي حداثي يسلم بالجمهورية نظاما للحكم، وهو بالتالي يسلم ضمنيا بالديمقراطية نمطا للحياة السياسية على اعتبار أن
الجمهورية تداول سلمي على السلطة لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل حياة سياسية ديمقراطية.
لكن بورقيبة أرسى في الوقت نفسه دعائم الجمهورية، والسلطة الاستبدادية التي تلغي كل اختلاف وتقمع بالحديد والنار المعارضة مهما كان محتواها، كان هذا البناء البورقيبي مشوها وغير قابل للاستمرار بحكم تناقضه الداخلي، وبحكم عدم تطابقه مع السير الطبيعي للأشياء، كان هذا البناء البورقيبي متعارضا مع البورقيبية، وفي هذه النقطة أيضا تنقذ الثورة البورقيبية من بورقيبة بإثباتها أن لا رجعة عن الجمهورية ولا معنى لهذه الجمهورية دون حياة سياسية ديمقراطية تمكن فعلا من تحقيق هذه الجمهورية.
معنى هذا أننا مدعوون إلى التمييز بين المشروع السياسي الذي في ظرف عصيب ودقيق حقق للتونسيين ما به تحررهم السياسي والقانوني، ومهد الطريق لمسار ديمقراطي يضمن لكل التونسيين المساهمة في بناء بلدهم، وبين الشخص الذي في لحظة مجردة اعتراه جنون عظمة دفعه إلى التفريط في كل هذه الأفكار التحررية التي وإن لم يجثثها كلها إلا أنه استهدفها بدليل تركيزه على الجمهورية الأولى، وفي خضم هذا التمييز ينبغي أيضا أن نميز بين بورقيبة المناضل الحر من أجل مشروع تحديثي لم يتحقق بعد وبين بورقيبة الزعيم السياسي الذي أرسى دعائم حكومة استبدادية ظالمة.
وبين الأول والثاني يوجد فرق نوعي ينبغي أخذه بعين الاعتبار لا يكاد أغلب التونسيين يرونه بفعل دعاية سوداء مزدوجة؛ الأولى أشرف عليها بنفسه جعلت منه زعيما سياسيا لا هدف له إلا تمجيد شخصه بصرف النظر عن مشروعه، والثانية الدعاية السوداء بعد الثورة التي استغلت اسمه لخلق صراع زائف بين بورقيبة والأحزاب الدينية المتشددة بهدف التشويش على
الصراع الحقيقي حول التوزيع العادل للثورة والسلطة.
بفعل كلا الدعايتين لم يتمكن التونسيين من رؤية المشروع السياسي الذي صاغه بورقيبة في ظرف عصيب، واستسلموا لعملية الاختطاف التي قام بها أصحاب المصالح القائمة من أجل الحفاظ على مصالحهم، ولم ينتبه جيل كامل من الذين انجزوا الثورة أنهم حرروا مشروعا تحديثيا أصيلا وخلاقا من براثن من حاد به عن أهدافه، وهم بذلك أنجزوا دون أن يعلموا القراءة النقدية الحقيقية لهذا المشروع.
لم يطلبوا من ثورتهم غير إنجاز ما عجز بورقيبة عن انجازه رغم أنه هو من وضع أسسه: مشروع دولة مدنية تعددية تضمن الحريات العامة وحقوق الإنسان، وتمكن من توزيع عادل للثروة والسلطة. من هذه الجهة فإن البورقيبيين الذين عجزوا بفعل الدعاية السوداء أن ينجزوا النقد الذاتي القادر بالفعل على تحريك البورقيبية، وتحيينها يجدون أنفسهم اليوم وبفعل الثورة ضمن المسار الصحيح للمشروع المدني للجمهورية الأولى.
إن النقاش الحالي في تونس والتيارات السياسية والفكرية التي رأت النور وكل الحوار الذي عقب الثورة هو اللحظة التأسيسية الضرورية لكل دولة مدنية، وهو نقاش يعود بنا مباشرة إلى الخمسينيات من القرن الماضي حول قضايا لم يقع الحسم فيها ديمقراطيا لكون بورقيبة علق هذا النقاش والحوار.
إن ما نراه من تساؤل وحيرة وأحيانا من صراع حقيقي بين مكونات الشعب التونسي هو النتيجة المباشرة للخيار العام للنظام الجمهوري، وهو يقتضي الحوار بشأن القضايا الخلافية كما يقتضي التوافق وأن يتعلم الجميع احترام الجميع والعيش معا تحت الحد الأدنى المشترك.
كل هذه المسائل والقضايا والحوار وأحيانا الصراع كان محله الخمسينيات من القرن الماضي، ولكن بورقيبة علق الحوار وفرض الرأي الواحد. لكن هذا لا يلغي حتمية الحوار، وإنما يؤجله فحسب، من هذه الزاوية تبدو الثورة تكريسا للخيار الإستراتيجي للبورقيبية ولكن دون بورقيبة الزعيم الأوحد.