جُوبهت حركات "الإسلام السياسي" بعد وصولها إلى السلطة في بعض دول الربيع العربي، خاصة في تونس ومصر، بانتقادات شديدة وقاسية، تمحورت حول عدم جديتها في
تطبيق الشريعة التي كانت تبشر بها قبل تسلمها مقاليد الحكم.
تراوحت دفاعات تلك الحركات بين التعلل بمبدأ التدرج في تطبيق الشريعة، كما كان حال خطاب الإخوان المسلمين في مصر، وبين التنصل من الدعوة إلى تطبيق الشريعة أو إقامة دولة إسلامية، كما صرح بذلك رئيس حركة النهضة التونسية، الشيخ راشد الغنوشي، مشددا على أن حركته كانت تدعو دائما إلى الديمقراطية والحرية.
على وقع تلك الأحداث، ثار جدل واسع بين أتباع الاتجاهات الإسلامية المختلفة، إذ تبنت بعضها الدعوة إلى تطبيق الشريعة دفعة واحدة رافضة مبدأ التدرج، غير آبهة بالواقع وتحدياته وضغوطاته، مهاجمة الحركات المتبنية لمبدأ التدرج والمرحلية، وأخرى رأت صعوبة تطبيق الشريعة جملة واحدة، في وسط يموج بتحديات داخلية وخارجية، تجد فيه دعوة تطبيق الشريعة معارضة قوية وشديدة.
هل يمكن مقاربة هذه القضية بمنهجية علمية شرعية، تأخذ تحديات الواقع وضغوطه وحساباته ومعادلاته بالحسبان؟ هذا ما سعى إليه الباحث السعودي، المتخصص في
الفقه الإسلامي، ماهر بن محمد القرشي، في كتابه "الإسلام الممكن.. دراسة تأصيلية في فقه المسافة بين فهم النص وتأويله"، فقد حاول فيه "تقديم رؤية متوازنة حول مسألة تطبيق الشريعة، تتوسط بين مَنْ يفرِّط في مفاهيم الشريعة مراعاة للواقع، ومَنْ يغلو فيها تجاوزا للواقع"، على حد قوله.
مفهوم "الإسلام الممكن"
ما الذي عناه المؤلف بـ"الإسلام الممكن؟
"الإسلام الممكن هو الأحكام الشرعية التي توافرت فيها شروط التطبيق وانتفت عنها موانعه"، ويتوسع المؤلف في الشرح والبيان فيقول: "بعبارة أخرى، فإن الإسلام الممكن هو ما كان مرتبطا بحدود الاستطاعة الشرعية والمصلحة المعتبرة، وما لم يتوافر فيه شرط الاستطاعة من الأحكام الشرعية أو لم تتحقق فيه المصلحة المعتبرة عند تطبيقه، فإنه خارج عن دائرة التكليف في الشريعة إلى أن تتحقق القدرة على تطبيقه، وإن كان هو من جملة مفهوم الإسلام المطلق".
يظهر بجلاء أن المؤلف مع إيمانه المبدئي بوجوب تطبيق الإسلام الكامل والمطلق بتمامه وكماله، إلا إنه يأخذ بالاعتبار في حالة تطبيق تلك الأحكام (تطبيقا عاما) معطيات الواقع بمحدداته الزمانية والمكانية، وتوافر الاستطاعة الشرعية، وتحقق المصلحة المعتبرة عند التطبيق، من هنا تتمايز الرؤية التي ينطلق منها المؤلف في مقاربة القضية المطروحة، عن الرؤى الأخرى التي لا تقيم أدنى اعتبار للواقع وتحدياته وضغوطاته، ولا تحفل كثيرا بتحقيق المصلحة المعتبرة، مع ضرورة توافر الاستطاعة الشرعية لا مطلق القدرة الطبيعية.
ومن أجل تجلية المفهوم بشكل واضح ومباشر، فإن المؤلف لم يتردد في تقرير أن ما يريده تحديدا بـ"الإسلام الممكن" يجسد "الصيغة التوفيقية بين أحكام الشرع وتغيرات الواقع، وفقا لقاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد، أو الحسنات والسيئات كما سماها ابن تيمية"، حينما قال: "وأصل هذا أن الله جل وعز بعث الرسل لتحصيل المصالح وتكميلها بحسب الإمكان، وتقديم خير الأمرين بتفويت أدناهما. والله سبحانه حرم الظلم على عباده وأوجب العدل، فإذا قُدِّر ظلم وفساد ولم يمكن دفعه، كان الواجب تخفيفه وتحري العدل والمصلحة بحسب الإمكان".
ويستحضر المؤلف في سياق تقريره لضرورة مراعاة تغير الزمان في حال تطبيق الشريعة، وما طرأ على الناس في أنماط تفكيرهم وسلوكياتهم، نموذج الخليفة عمر بن عبد العزيز حينما وسد الأمر إليه، في تلك الحوارية الكاشفة بينه وبين ابنه عبد الملك، حينما سأله: "يا أبي، ما لي أراك تتباطأ في إنفاذ الأمور؟ والله لا أبالي لو غلت بي وبك القدور في سبيل الله، فقال يا بني: إن الله ذكر الخمر في آيتين ثم حرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أدفع الناس إلى الحق جملة فيدعوه جملة، ولكن أما ترضى ألاّ يمر على أبيك يوم إلاّ وهو يميت فيه بدعة ويحيي سنة؟".
التوسل بأصول ومفاهيم شرعية
بسبب التداخل الشديد في أنساق التدين الشائعة بين قواعد فهم النص الشرعي وقواعد تطبيقه، أطال المؤلف النفس في تجلية الفروق بينهما، مقررا أن ثمة مسافة بين الفهم والتطبيق، مستندا في استخراج تلك الفروق وتقريرها إلى النصوص الشرعية وتقريرات الأئمة والعلماء، مكثرا في استدلالاته واستشهاداته من النقل عن ابن تيمية والشاطبي وغيرهما من أئمة العلم.
فقواعد فهم النص الشرعي وفقا للمؤلف "ترجع إلى أصلين عظيمين: اللغة العربية ومقاصد الشريعة، وقد وضع العلماء لهذين الأصلين قواعد تفصيلية كثيرة، ليس من بينها تأثير تغيرات الزمان والمكان (الواقع) على فهم النص وتفسيره، لأن مجال هذه القواعد هو الأحكام الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان". أما قواعد التطبيق "فهي مختلفة تماما عن قواعد فهم النص، حيث تقوم على الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتفعيل قاعدة الاستطاعة، وإجراء قاعدة التدرج، ومراعاة مآلات الأفعال، وفقه مراتب الأحكام، ومراعاة تغير الأعراف والمصالح، ونحو ذلك..".
وأشار المؤلف إلى أن من فوائد التمييز بين "قواعد الفهم وقواعد التطبيق" فائدتين أساسيتين؛ أولهما: "حفظ معاني الشريعة الثابتة من أن يطالها التحريف والتبديل، وذلك عن طريق تخصيص قواعد لفهمها واستنباطها، ومنع إجراء قواعد التطبيق عليها التي من شأنها التبدل والتغير"، والفائدة الثانية: "التوازن في تطبيق الشريعة بين طائفتين؛ طائفة غلت في المعاني الثابتة باستعمال قواعد الفهم في أحكام الشريعة المتغيرة، وطائفة تجاوزت المعاني الثابتة باستعمال قواعد التطبيق في فهم الشريعة. فالطائفة الأولى عطلت الحدود، وضيعت الحقوق، وجعلت الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، والطائفة الأخرى سوّغت من الأحكام ما ينافي حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم".
لعل نموذج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أكثر النماذج وضوحا على سعة
الاجتهاد في الفقه التنزيلي، أي تنزيل الأحكام وتطبيقها على الواقع، وهو من أكثر الخلفاء جرأة على هذا اللون من الاجتهاد، فمن المحفوظ عنه أنه لم يقسم أراضي العراق المفتوحة عنوة بين الفاتحين، واختار وقفها لصالح بيت مال المسلمين، كما أنه أوقف العمل بسهم المؤلفة قلوبهم، وأوقف تطبيق حد السرقة في عام المجاعة، ما يفتح الباب واسعا في آفاق الاجتهاد لتطبيق الأحكام الشرعية وتنزيلها على الواقع، في البحث عن مدى تحقيقها للمصالح التي شرعت من أجلها، أو عدم توفر شروط تطبيقها في الواقع المراد إنزالها عليه.
يخلص المؤلف إلى القول بأن "الفرق الجوهري بين قواعد الفهم وقواعد التطبيق: أن قواعد الفهم مطلقة من تأثيرات الزمان والمكان والحال، في حين أن قواعد التطبيق مقيدة بذلك، ويترتب على هذا الفرق أن نتائج قواعد الفهم أحكام ثابتة، ونتائج قواعد التطبيق أحكام متغيرة".
تطبيق الشريعة في واقع متغير
يواجه دعاة تطبيق الشريعة تحديات داخلية وخارجية ضخمة وكبيرة، تعترض سبيلهم وتعارض توجهاتهم، وهذا يتطلب من فقهاء الحركات الإسلامية البحث عن صيغ توافقيه بين أحكام الشرع وتغيرات الواقع وضغوطه، ويظهر جليا مدى الحاجة إلى فقهاء يتسمون بالجرأة العلمية لإنتاج رؤى وتصورات تأخذ بمبدأ التدرج في تطبيق الأحكام، وتعلي من شأن المصلحة الشرعية المعتبرة حال التطبيق، وتقيم اعتبارا كبيرا للاستطاعة الشرعية المحكومة في مآلاتها بالموازنة بين المصالح والمفاسد، والترجيح بين الحسنات والسيئات.
يركز المؤلف في مقاربته على قواعد التطبيق المتعددة، مفردا مساحة واسعة للحديث عن مبدأ التدرج، وأنه لا غنى لأي مشروع يروم تطبيق الشريعة من التوسل بالتدرج "التطبيقي"، كما أنه يحفل كثيرا بقاعدة المصلحة العامة المعتبرة شرعا، فالشريعة جاءت لتقرير مصالح العباد، مقررا "وجود نوعين من المصالح في الشريعة: مصالح تفسيرية وهي التي تؤثر في فهم النص، ومصالح تطبيقية، وهي التي تؤثر في تطبيق النص، ويترتب على هذا التفريق تأصيل مسألة التعارض بين النص والمصلحة".
هل يمكن أن يقع التعارض بين النص والمصلحة (المقدرة بحسب معطياتها الواقعية)؟
وفقا للمؤلف فإن "تعارض النص مع المصلحة لا يخلو من حالين: إما أن تعارض المصلحة فهم النص، وإما أن تعارض تطبيقه، فالمصلحة التي تعارض فهم النص لا يجوز أن يكون التعارض كليا بالاتفاق، لأن التعارض الكلي يؤدي إلى إبطال النص بالكلية، وأما المصلحة التي تعارض تطبيق النص فيجوز أن يكون التعارض كليا، وفي هذه الحالة تُقدم المصلحة التطبيقية على النص، إذا كان يترتب على العمل بالنص مفسدة أعظم".
تبقى الإشارة إلى أن الغرض الأساسي لهذه الدراسة – كما أوضحها المؤلف – هو "تقديم رؤية اجتهادية للفقهاء – أولا – حول المنهجية السليمة للتفريق بين فقه النص وتطبيقه، وللأحزاب والحركات الإسلامية التي وصلت للحكم – ثانيا – (بالطبع قبل إجهاض تجربتها) حول الكيفية المناسبة لتطبيق الشريعة؛ بحيث يتم الجمع من خلال هذه الكيفية بين الاستسلام للشرع وحسن التعامل مع الواقع" وهو ما يتطلب مزيدا من الجهد البحثي الجاد – يُضاف إلى جهد المؤلف في هذا الكتاب - لتجسير المسافة بين فهم النص وتطبيقه من ناحية، واستكشاف الآفاق الممكنة لتطبيق الشريعة في واقع متغير من ناحية أخرى.