قضايا وآراء

ريهام دوابشة.. أليست سببا لمن أتبع سببا؟

محمد حسني عودة
1300x600
1300x600
ربما تحدث نفسك في خلوة وفي خضم مُر الأحداث والكوارث التي تمر فيها الإنسانية جمعاء فتقول: هل إنسان اليوم هو الإنسان ذاته الأمس في بعض العصور، وحتى العصور المظلمة؟ هل إنسان اليوم هو الإنسان ذاته في عصر المصريين القدماء، في عهد الفراعنة؟
 
لكنك عندما تقرأ في بردية "أنى" في كتاب "الموتى الفرعوني"، تجده يعبر عن دفاع الميت عن نفسه في العالم الآخر (حاشا لله أن نؤمن بغير الإسلام دينا) أمام الآلهة المزعومة، في تصوير قاعة المحاكمة للعدل والحق عند المصريين القدماء. 

فيقول: "… لم أرتكب إثما، ولم أسرق، ولم أقتل، ولم أنطق بالأكاذيب، ولم أسبب ألما أو حزنا أو بكاء.. ولم أتسبب في خراب أرض محروثة.. ولم أصم أذني عن كلمات الحق والعدل.. ولم ألوث المياه.. ولم أحرم الرضيع طعامه…". 

عندها تصاب بالذهول، وتصلب بالعروق، وألم يشوح قلبك، وصارمة تلطم وجناتك. 

كيف لا وإنسان الحضارة الفرعونية، على ما وصلنا من فهمنا هو أرقى وأعز وأشرف من مدعي الإنسانية اليوم، الذي قتل وسرق ونطق بالأكاذيب، وتسبب في حزن وألم وبكاء وعويل، وأهلك الحرث والنسل، والشجر، والدواب، وأجهز على المياه ولوثها، وقتل الرضيع وأمه وأباه، وفصيلته التي تؤويه، وأرتكب مجازر في حاكورته وبيته وأشجار تينه وزيتونه، وفي قُراه ومدنه، ومخيمات شتاته.
 
بالأمس، وفي اليوم، وكل يوم، ستظل تقول لنا ريهام دوابشة -التي ارتقت روحها إلى بارئها، ونحسبها عند الله من الشهداء، هي وطفلها الرضيع وزوجها- إن من ارتكبوا جريمة حرقهم جميعا هم من الإنسانية براء. بل إن الحيوانية تشفق على نفسها في قيمها منهم. لا شك أنها قيم خاصة بصهيونيتهم !!!

هنا تتباطأ أنفاسك حينا، وتتسارع حينا آخر، فتسأل نفسك في هنيهة: في أي عالم نحن نعيش؟
 
هل ذلك الإنسان في بردية "أنى" قبل آلاف السنين في دفاع الميت عن نفسه أفضل من إنسان اليوم الذي تطورت إبداعاته في تنظيم الطرق، ونظم المواصلات البرية، والبحرية، والجوية، ونظم الاتصالات المرئية، والمسموعة، والرمزية، وغيرها، ونظم الرعاية الصحية، ولكن ليس في النظم التربوية؟
 
هنا ينتابك سؤال آخر. فإذا كان إنسان بردية "أنى" أفضل، فما هي سر الأفضلية؟ ربما بتفكر بسيط يهديك عقلك لمعرفة سر الأفضلية، عندما تستحضرك شموخ حضارتهم منذ آلاف السنين، قبل وصول الأديان السماوية إليهم، وفي الوقت ذاته، لم يكونوا ليهلكوا الحرث والنسل والرضيع والشجر والدواب والماء والهواء.
 
لكن المأساة الصغرى أننا نرى العالم "المتحضر!!" يدافع عن هؤلاء المارقين الصهاينة (وأتذكر كلمة ذلك الوزير الأمريكي المتصهين دونالد رامسفيلد، حين وصف دولنا بالمارقة) ويبرر لهم قتل أطفال غزة الأبية ونساءها الأحرار، وشيبها، وشيبانها، وأسماك بحرها، بحجة أن هؤلاء الصهاينة يدافعون عن أنفسهم، مقابل شعب أعزل ليس له بعد الله إلا تضحيته بالغالي والنفيس. 
أتذكر وتتذكرون دير ياسين وغيرها في فلسطين، وتتذكرون صبر وشاتيلا، والكثير الكثير.
 
وتتعالى المأساة في ضخامتها، فتجد سيفا صارما ممن يساهم في تعطيل خمسة من مقاصد الشريعة (تبعا لنظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي)، في حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ النسل، تجده ذاك يحاصرك لتبقى مكظوما، مسلوبا حقك في الإنسانية، فتتذكر حصار شعب أبي طالب.
 
لكن المأساة تكبر في مداها، فإذا بنا نقابل هؤلاء القتلة بثقافة "تفاح الضرار" وثقافة برامج موسيقى الصنم "أراب أيدول"، وغيرها، لنُحيد قطاعا كبيرا من أبنائنا وبناتنا عن رسالتهم، ونُعمق لهم في سباتهم. 

إنها سوق النخاسة، فلا فلحت تجارتهم ولا هم فلحوا!! إنهم يبيعون أصنامهم إلى أصنامهم، لا إلى أحرارنا وحرائرنا.

تباكت دموع الإنسانية على مقتل محمد الدرة من قبل، وحرق الرضيع علي الدوابشة وجثة الطفل الغريق إيلان الكردي، ملقاة على شاطئ البحر.. رحمهم الله جميعا، وأسكنهم منازل الشهداء والأبرار. 

رأينا وسمعنا الأخ والصديق والعدو المستعدي العارب والمستعرب، ما يحمله في ظاهره تأثرا بليغا، ونحن ندرك الغث من السمين!!!
 
لكننا اليوم نتيقن أكثر من ذي قبل، وبعد وفاة ريهام دوابشة، مصداقية من تباكوا على كل هؤلاء الأطفال، والطفل الرضيع علي دوابشة.
 
أليست ريهام دوابشة أمُّ ذلك الطفل الرضيع؟ أليست ريهام دوابشة نفسا؟ أليست حرة أبية؟
 
هنا نتذكر "ذو القرنين"، ولكننا نتذكره في سياق مختلف!
 
نتذكر أن ذا القرنين قد أتبع سببا. أعطاه الله من الأسباب فاستخدمها في طاعة الله، وحسن الاستخلاف على من تولاهم، فأحاطهم أمنا وأمانا وعزة ورُقيا وبنية تحتية.. لكن هو الأمن والأمان من قوم يأجوج ومأجوج الذي أتبع به سببا، فصان النفس البشرية من شر هؤلاء الشرذمة المفسدين في الأرض.
 
نتذكر ذا القرنين فنقول: من يتبع سببا؟ من يأخذ حرق ابنتنا، وكريمتنا، وأختنا، وعرضنا، فيتبع سببا؟
 
تذكروا قول الله عز وجل: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) البقرة.
 
ولكن كيف لنا أن نتبع سببا سببا؟
 
أليس حرق الطفل الرضيع وحرق أمه وأبيه، ووفاتهما كمن قتل الناس جميعا؟
 
ألسنا بحاجة إلى أن نتبع سببا بعد هذه الجريمة، ونجعل ذلك سببا لمحاسبة هؤلاء القتلة المارقين بالقانون، فلا ندع تلك الحادثة تمر مر الهوان أبدا، ولا تتكرر، فعندها نكون ممن أحيا الناس جميعا؟
 
نحن أمة الإنسانية، ولا نخرج عن تعاليم ديننا وشريعته السمحاء، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي أُرسل رحمة للعالمين: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَة لِّلْعَالَمِينَ (107) الأنبياء. 


ونحن أمة علمنا رسولنا عليه الصلاة والسلام :(تخلقوا بأخلاق الله) في رواية الإمام أحمد في مسنده، وهو الذي وصف نفسه بأنه بُعث ليتمم مكارم الأخلاق. فلن نكون إلا رحمة للعالمين. 
ألم يعط الله ذا القرنين من كل شيء سببا، فاستخدمها تبعا سببا لسبب آخر، وهكذا، ولكن في أعظم صورها، ألا وهي حفظ النفس والدين والعقل والمال والنفس! لقد كان نعم المُستخلف فيما أعطي من سبب.
 
اليوم تقول ريهام دوابشة: هل هناك من يتبع سببا، فيأخذ حقي وحق زوجي ورضيعنا، ومن تركنا ومن وراءنا، ابننا الذي بقي حيا، وذوينا اللذين تفطرت وتتفطر قلوبهم.
 
لكننا نحسبهم محتسبين.. كيف لا؟ وما قاله والد ريهام التي نحتسبها شهيدة: ربي منحني أجمل هدية، ثم أخذها مني، فلله الحمد والشكر، وحسبنا الله ونعم الوكيل".
 
رحمك الله يا ريهام دوابشة، ورحم الله زوجك ورضيعكما، ورحم الله إيلان الكردي ومحمد الدرة، وكل شهدائنا الأبرار.
التعليقات (1)
د خالد مبسلط
الأربعاء، 09-09-2015 09:26 ص
شكرا مقالك اعجبني وليت الناس تسمع وتعتبر