حرب مستعرة في
الشارع التونسي عمن يقود
المعارضة ضد التحالف الرباعي الحاكم. كل يزعم امتلاك الشارع أو حل الاستحواذ عليه. ولكن الجميع يقع في لعبة النظام القديم التي طالما لعبها بإتقان إذ يفرق بين الصفوف ليسودها بأقل كلفة ممكنة ويجد دوما من يبيع رفيق الطريق للحصول على رضا النظام.
في مفتتح السنة السياسية الجديدة عادت حرب اليسار واليمين وعادت نغمة التخوين بين مكونات المعارضة البرلمانية وغير البرلمانية وعاد الجمهور إلى الفرجة الباهتة في صراع الديكة.
النظام يختار معارضته
يتذكر التونسيون بعد انتخابات 2014 الصراع الحاد الذي نشب في البرلمان الجديد بين الأغلبية الحاكمة وبين شقين من المعارضة حول ترأس لجنة المالية في البرلمان والتي نص الدستور على منحها للمعارضة.
تبين وقتها أن المعارضة اليسارية (الجبهة الشعبية) هي من احتكرت قانونا صفة المعارضة، وأقصت نوابا آخرين من غير المنتمين إلى الكتلة الحاكمة، فصار هناك شقان للمعارضة واحدة محددة المهام ومعرفة بالدستور والأخرى يستوي حضورها وغيابها، أو يراد لها من الحزب الحاكم وحلفائه ومن المعارضة أن تهمش، وهو لقاء غريب بين نظام ومعارضته على إقصاء جزء من المعارضة.
لقد أدت المعارضة الرسمية المختارة مهمتها الأولى بنجاح إذ مررت قانون إعادة رسملة البنوك دون أدنى ضجة، وهو قانون لم يحظ بنقاش برلماني حقيقي وعلني وتم تسريع إصداره بطريقة مريبة، كما مررت المعارضة المختارة الميزانية التكميلية بكل مقاييسها التقشفية التي ستزيد الفقراء فقرا، فيما ضاع صوت المعارضة المنبوذة في زحام المزايدات، ويقف الشارع اليوم متفرجا في حلقة جديدة من مسلسل الحكم والمعارضة، حول قانون المصالحة مع الفاسدين، ويختبر المتابع جدية المواقف والخطابات.
الشارع الحائر أمام النظام البائر
من الواضح أن هذا النص وضع على قياس معلوم هو تنقية طبقة الفاسدين التي حكم بها بن علي وحكمت به، وإخراجهم من دائرة الاتهام وإعادة تمليكهم أموالهم ونفوذهم بطريقة غير دستورية، أي خارج دائرة تدخل هيئة الحقيقة والكرامة الدستورية المكلفة بالمحاسبة والمصالحة، (بالتوازي مع تقديم النص القانوني للبرلمان) شنت حملة شيطنة إعلامية على الهيئة المعنية وعلى المسؤولة الأولى بها ولا تزال الحرب عليها مستعرة، حملة ذكرت الناس بأسلوب بن علي في هرسلة معارضيه وتدميرهم باستعمال الكذب والتلفيق.
ثم جاء دور الشارع مرة أخرى، لبى بعض الشباب الدعوات إلى التظاهر، فماذا وجد أمامه بخلاف جهاز القمع المتوتر والذي انتقل من مشروع أمن جمهوري (في حكومة علي لعريض) إلى وظيفة الميليشيا المسلحة عند رجال الأعمال، لقد وجد المعارضة القانونية تريد أن تحكم الشارع وحدها، فقد تبين أن الشارع مقفر فتتالت الدعوات للتنسيق والتجميع لملء الفراغ، قاد الحزب الجمهوري الاجتماع الأول فانكشف المستور، الرفض المطلق للتنسيق مع شق قائم في المعارضة هو حزب المؤتمر ونشطاء مستقلين وحراك شعب المواطنين الذي يتجمع حول الرئيس السابق. والحجة أن هؤلاء هم بقايا الترويكا الحاكمة وعليه فقد استعيدت نغمة الإرهاب والاغتيالات ونعمة التمويل القطري التركي.
انكسر التحرك مؤقتا لأن كل تنسيق ميداني في معارضة القانون يعني إعادة تأليف المعارضة وإنهاء احتكار الجبهة الشعبية لهذه المهمة المحددة بالدستور، لن يكون هناك معنى للاستفراد بقيادة المعارضة في البرلمان إذا تغير شكلها وجمهورها في الشارع، المعارضة غنيمة لا يمكن التفريط فيها، هي ورقة تفاوض جيدة لمكاسب حزبية وفئوية مؤقتة أو دائمة، هي أداة ابتزاز سياسي في ظرف توشك فيه أموال كثيرة أن تذهب إلى الحزب الحاكم ليعيد بها تقوية صفوفه وقد ينال شركاؤه بعضا منها، وتوسيع المعارضة لتضم كل الغاضبين سيخرج الورقة من يد الجبهة، وقد يتحول الأمر إلى معارضة غير قابلة للضبط، في ظرف دقيق جدا تمت استعادة ورقتين: الاتهام بالإرهاب والتمويل الأجنبي وتنشيط النقابة طبقا للخطة القديمة.
النقابة والمطلبية ورقة سياسية مرة أخرى
لم يكن خطاب معارضة قانون المصالحة على جدول أعمال نقابة التعليم الثانوي في موفى السنة الدراسية المنصرمة، كانت هناك مطالب مادية بحتة وتم إمضاء اتفاقات بشأنها وانتهت السنة بسلام تقريبا، ترددت الوزارة في تطبيق الاتفاقيات (ترى لماذا فعلت ذلك؟) لكن خلال الصيف كانت مشكلة التعليم الابتدائي هي التي تسيطر على أجواء الصراع مع الوزارة وفجأة خرجت نقابة الثانوي رابطة بين تحقيق مطالبها القطاعية وحتمية إسقاط قانون المصالحة، وعاد الخلط من جديد بين السياسي والنقابي. وهنا وجدنا الجبهة مرة أخرى.
خلط النقابي والسياسي في تونس كان أمرا مقبولا بالنظر إلى تاريخ القمع فقد كان السياسيون يتخفون وراء المطلبية النقابية لإحراج النظام في أمر سياسي، وكانت كل الطبقة السياسية المعارضة تتواطأ على ذلك وتعمل بكل جهد على التموقع في النقابة لتحصيل السياسة.
الثورة أنهت ذلك إذ سمحت بتكوين الأحزاب وكان يجب على الطبقة السياسية أن تعيد النقابة إلى مهمتها الأساسية وتشتغل بالسياسة في حوانيتها الحزبية، لكن الحانوت الحزبي اليساري منه بالخصوص يعجز دون دفع أجرة الكراء. لذلك لم يمكنه التفريط في النقابة المكتسبة ليتم استعمالها في تحقيق المطلب السياسي، وهكذا ربطت مطالب القطاع بمطلب إسقاط قانون المصالحة، ودون تشريك المعارضة المتهمة بالإرهاب.
إن مقاطعة السنة الدراسية قبل بدايتها ورقة تفاوضية قاسية في مناخ اجتماعي متوتر. والوقت ضيق جدا للمناورة أمام الحكومة المختنقة بعجزها في ملفات كثيرة أخرى. لذلك نتوقع أن يتم التسريب قريبا أن القانون قابل للمراجعة والنقاش ثم سيتم تناسيه ثم اختفائه، بعد سقوطه يحسب الناس مكاسبهم وخسائرهم.
جردة الحساب السياسي
يمكن للجبهة الشعبية بعد سقوط النص أن تعلن نفسها الممثل الشرعي الوحيد للمعارضة، وأن ترسل رسائل عديدة:
أولا: رسالة للمعارضة لقد قطعت الطريق مرة ثانية على احتمال ظهور المرزوقي في المعارضة، فهو المعني ضمنا في خطاب الجبهة برعاية الإرهاب والتمويل القطري.
ثانيا: إلى رجال الأعمال أن الجبهة قادرة دوما على وضع العصا في عجلتهم ولو باستعمال المدرسة العمومية وأبناء الفقراء وقودا في المعركة، وعليه فإن التفاوض يجب أن يتم معها لا مع غيرها.
ثالثا: إلى حزب النداء إن تحالفه مع
النهضة لن يقويه مهما كان عدد الكراسي في البرلمان، فالأغلبية البرلمانية أضعف من أن تواجه النقابة وإن تظاهرت المركزية النقابية (البيروقراطية) بالتهدئة في الاجتماعات الرسمية، (توزيع أدوار معروف).
رابعا : إلى حزب النهضة أن ثقله في الشارع غثاء كغثاء السيل، بل تضعه - وهذا مكسب هام جدا - في زاوية ضيقة، لقد أسفرت أيتها النهضة عن وجهك الليبرالي المنحاز إلى منظومة الفساد فلم تربحي من تحالفك إلا خسران شارعك.
خامسا: إلى المؤتمر القادم في سنة 2016 الاتحاد العام التونسي للشغل ملك خاص لليسار النقابي ولا يجب التفكير في اقتحامه من أي كان.
لقد أدى مشروع النص مهمته بنجاح، لقد وضع الجبهة في الصورة بشكل جيد، وتبين للناس أن الاقتراح الليبرالي لا يخدم بالضرورة الليبراليين(من وضع النص في النقاش؟)، ويمكن للشباب الثائر أن يواصل لعن البوليس فهي مهمة ثورية تعزي عن خيبات كثيرة، في أثناء ذلك تراقب المنظومة القديمة صراع الديكة وتعرف أن الجميع يعود إلى ملعبها، فما دامت لديها الجبهة (اليسار) فلن تتوحد المعارضة ضدها أبدا أما تلبية المطلبية فهي تصرف لتلبيها من غير مالها. هي فقط تتظاهر بالحرص على المال العام ثم تتفضل بالمنح منه لأصحابه ككل من يأكل من غير زاده.