لا شك أن أجيالا سبقتنا، وأجيالا منا، وفي عصرنا، وممن يلحقون بنا، درسوا ويدرسون
الهندسة وعلومها بشتى تخصصاتها. لكنك تصاب بذهول يعكر صفو فهم موازين الأسس الهندسية عندك إذا كنت في مهدك لفهم الهندسة، تخصصا تتعلمه وتطبقه في ميدانه المتعلق به. ويزداد ذلك الصفو تعكيرا عندما ترى من المهندسين الذين تخرجوا منذ سنوات -قد تكون مرت بأوقات عجاف- لا يدركون فهما دقيقا لمعنى "المهندس" أو "تخصص الهندسة".
هنا، وفي جوقة تعكير الصفو التي انتابتني مرارا، أجد نفسي مضطرا للبوح بمواقف تجعلني أقف مذهولا مما يحدث عندنا وفي كثير من الجامعات العربية الغربية وغيرها. في كل عام دراسي جامعي أبدأ به محاضراتي عن هندسة نظم البرمجيات -سواء أكان ذلك لطلبة البكالوريوس أو الماجستير والدكتوراه (حسب تخصص المادة الفرعية)- لا أجد مناصا أن أسأل الطلبة: ماذا تعني لكم كلمة "هندسة" أو "مهندس"؟
إن مبعث تساؤلي هذا هو واجب الأمانة العلمية في تخريج أجيال لهذه الإنسانية تعي ماهية ما تتعلمه، قبل أن تقود جيلا من بعدها للإنسانية، فلا تكون خير خلف لما قد سلف.
خيبة أملي في إجابات الطلبة لم تكن على مر السنين بسيطة، بل كانت أشد مرارة عند سماع مفهوم الهندسة عند من التقيتهم من المهندسين القدامى وحديثي التخرج، وأيضا من الأكاديميين أساتذة الهندسة في بلادنا وغيرها.
السؤال المهم الذي يطرح نفسه: أين الخلل؟ هل يفهم أبناؤنا لماذا يريدون أن يدرسوا الهندسة؟ هل ليكون لقبه "مهندس" أسوة بمن يحمل لقب "طبيب" أو غير تلك الألقاب في سوق مجتمعاتنا التي في كثير من الأمور لا تدرك ماهية وفداحة ما يمر به أجيالنا؟ والمصيبة الكبرى عندما تجد الخلل في أروقة صروحنا العلمية ورخاوة النقابات الهندسية في أن تستحدث ما يسمى "المهندس القانوني"، الذي لقانونيته أسس عالميه كما هو الحال في التميز فيما يخص المحاسب القانوني والمجالس الطبية؟ إن مهندسا في تخصص دقيق (في تصميم بناية أو طائرة، مع أن ذلك هو من ضمن عمل فريق هندسي) يمكن أن يتسبب في إيذاء البشرية أضعاف ما يتسبب به طبيب مخل في أدائه لضيق دائرة أثره.
إن من أفضل ما رأيت تعريفا ووصفا لمفهوم الهندسة في عصرنا الحديث هو " تطبيق العلم والرياضيات لتصميم وبناء منتجات تكون مفيدة للإنسانية"، والتعريف الآخر الذي أصدره مستلحقا "معهد المهندسين البنيويين" البريطاني في أوائل التسعينات الذي في عضويته ما يزيد عن 27000 عضوا من أكثر من 105 دولة، عندما وصف الهندسة البنيوية "structural engineering" على أنها "العلم والتفنن في التصميم والبناء بشكل اقتصادي وجمالي، مبان وجسور ومنشآت وبنيويات أخرى، بحيث تكون آمنة في مقاومتها للقوى التي يمكن أن تتعرض لها".
لا شك أننا ندرك من تلك التعريفات الحديثة لمفهوم الهندسة، أنها ترتكز على مجموعة مرتكزات أساسيه: (1) المنتج الهندسي لا بد أن بكون مفيدا لا ضارا بالإنسانية، (2) ماهية المنتج، (3) العلم والمعرفة والاختصاص بالمنتج، (4) الحاجة لعملية هندسية ذات مراحل من المتطلبات إلى التسليم وبجودة نوعيه، (5) الإبداع والخبرة والحكمة، (6) العلم بحسن إدارة المشاريع.
وقبل أن أكمل في وصفي لـ"
ذو القرنين" الذي لقبته بالمهندس الأول الذي أتبع سببا فأحسن صنعا، لا بد لي من ذكر تطور للمفاهيم أو التعريفين السابقين أعلاه فقد عرف الآن براون وأنتوني إيرل وجون مكديرمد في كتابهم "بيئات هندسة البرمجيات - الدعم الآلي لها" والصادر في عام 1992 هندسة البرمجيات على أنها "العلم والفن لوصف وتصميم وبناء وتطوير، بطريقة اقتصادية ووقتية وجمالية، حزم برامج وتوثيق لها ولطرق تشغيلها، بحيث تكون أجهزة الحاسوب مفيدة للإنسانية".
لن نصاب هنا بالدهشة؛ لأننا نعلم أنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ومن ثم لا يستوي الذين يعلمون ويحسنون صنعا والذين يعلمون ولا يحسنون صنعا. كم تطور مفهوم الهندسة من عصر مهندسي الآلات في عصور النهضة الإسلامية مرورا بمهندسي الآلة البخارية وإلى يومنا هذا، ولكنها لم ترتق بعد إلى هندسة ذي القرنين .
لقد أتقن ذو القرنين تطبيق تخصص دقيق لا زلنا نحاول فهمه في عصرنا الحديث، ألا وهو "هندسة المتطلبات" "requirements engineering" التي هي إحدى التخصصات الفرعية في علم هندسة النظم وعلوم الهندسة الأخرى ضمن مناهج التدريس الحديثة.
وقد تعلمتُ وطورتُ مفهوما وتعريفا لهندسة المتطلبات تأثرا بما قرأتُ وتعلمتُ وطبقتُ في حياتي العملية، ولكني ما زلت لا أجيد مفهوم "أحسن صنعا"؟ في ورقة بحث علمية نشرتها في مؤتمر اسيت 2009، عَرفتُ هندسة المتطلبات على أنها "تطويع قطاع
المعرفة والإبداع في استجداء وتحليل ووصف وإدارة وتثبت من متطلبات مستخدمي المنتجات ونظمها بطريقة وقتية اقتصادية إبداعية، لإنتاج وثيقة مواصفات يوافق عليها جميع المؤثرين والمرتبطين بتلك المنتجات".
لا شك أن المنتج قد يكون سيارة أو طائرة، أو جسر مواصلات برية، أو نظام برمجيات، أو حتى نظام اجتماعي في حياتنا. فيكون السؤال الملح علينا: هل فهمنا متطلباتنا؟ هل طبقنا هندسة المتطلبات في نظم احتياجاتنا، فكتبنا مواصفات متطلباتنا، ووافقنا عليها في عملية، وتُثبِت منها، وشهِد عليها من يرتبط بها، مخططا، مسؤولا، استراتيجيا، مصمما، منفذا، مديرا.. إلخ أو ما نُسميهم stakeholders؟
لا يتسع المجال في مقال كهذا للتحليل الهندسي الدقيق (مع قلة حيلتي وعلمي الشرعي) لما جاء ذكره في محكم التنزيل عن ذي القرنين، ولكني أعزز النظر إلى ما أتبع سببه وأحسن صنعه مع قوم يأجوج ومأجوج: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْء سَبَبا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبا (85)… حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْما لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْر فَأَعِينُونِي بِقُوَّة أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْما (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَة مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّا (98) (الكهف))
هل دققنا في فهم ذي القرنين لأسمى هدف في متطلبات القوم الذين لا يفقهون قولا، وهي الأمن والأمان وهذا نسميه non-functional requirement .
فلهذا تجد ذا القرنين قد صمم الردم الذي بناه لهم على فهمه وتوثيقه لهذا المتطلب معهم، محددا بذلك مواصفات ذلك الردم. لقد جعله مشروعا في مفهومنا الهندسي الحديث، وأجاد استخدام الموارد البشرية والوقت في إدارة مشروع الردم ذاك. لقد كان مبدعا في تدرج عمليات هندسة النظم من فهم المتطلبات إلى التصميم إلى البناء إلى التسليم (الردم كمنتج) إلى التطوير.
لقد كان ذو القرنين مطبقا لمبادئ ما نتعلمه اليوم في إدارة المشاريع الهندسية، وفي الوقت ذاته كان مهندسا خلاقا مبدعا في إحداث واستخدام تقنيات، مثل صهر قطع الحديد، واتباع التوقيت المناسب في إفراغ النحاس المصهور فوقه، كل ذلك بتوقيتات دقيقة واستخدام ذكي للموارد البشرية والموارد الطبيعية.
لقد أتبع ذو القرنين الأسباب من علمه ومعرفته وخبرته وحسن فهمه لاستخلافه في الأرض وإمارته وقيادته، فجعلها أسبابا لاستحداث حلول هندسية مبدعة وتنفيذها نحو الهدف الأسمى والأعز والأعظم، الذي هو مبني على مبدأ أنه خليفة الله في الأرض؛ لذا يجب أن يكون ممن يُتبِعون الأسباب بعضها بعضا لخدمة الإنسانية التي سخر الله كل ما في الكون لها.
لقد فهمنا في عصرنا الحديث أهم هدف من الهندسة، وهو أن يكون المنتج الهندسي مفيدا للإنسانية. أليس ذلك من مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء في حفظ النفس والنسل ورفاهيتهم؟
لقد علمنا ذو القرنين أنك إذا أردت أن تكون مهندسا، فلا بد أن تعي أن ما تهندسه لا بد أن يكون مفيدا وخادما للإنسانية، وأن تتبع عملية مترابطة المراحل في التنفيذ والتطوير على أساس فهم دقيق لهندسة المتطلبات، وإبداع في الابتكار وإدارة في المشاريع، فلا تخرج عن ميزانية مشروعك، بل تجيد فن استخدام المصادر التي بين يديك من وقت ومال وثروات طبيعية، -وما أعظمها في بلادنا من بشر ووقت، وما في باطن الأرض من زيت ومعادن وعناصر لا حدود لنفعها إنسانيا وبذلك اقتصاديا- مطبقا أسس نظم الجودة النوعية في اختيار المعايير العالمية لاختبار المنتج ( فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا (97) (الكهف)).
لم ينس ذو القرنين أن يذكّرهم بأن علمه، خاصة في مشروع الردم ذاك، هو من عند ربه، وهو رحمة منه سبحانه. ذكرهم بتوحيد الربوبية؛ لأن الرب هم من يعلم ويرحم، وكان ذكيا في استخدام مفهوم الربوبية "من ربي"، ولم يستخدم مفهوم توحيد الألوهية. تلك هي العقلية الفذة التي تستخدم المطلوب للمناط في الوقت والكيفية المطلوبين.
أي إبداع هذا لمهندس مبدع موحد في عبوديته وربوبيته ولأسماء وصفات خالقه وموجده؟
لم ينس ذو القرنين أن يعلمنا أن كل عملية هندسية لا بد لها من منشأ، ولا بد لها من نهاية، وهذا ما تعلمناه ونعلمه في مناهجنا، بأن كل نظام أو منتج تنتجه أو مصنع أو محطة كهرباء تعمل بالغاز الطبيعي أو الوقود النووي، لا بد لها من زوال de-installation.
في تلك اللحظة العظيمة من تسليم مشروع الردم لذلك القوم الذين لا يفقهون قولا، ذكّرهم ذو القرنين: ( قَالَ هَذَا رَحْمَة مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّا (98) الكهف))
لقد كان ذو القرنين ممن أتبع سببا سببا، فأحسن صنعا مع المبدأ
القرآني، فلا تكون أعماله خاسرة: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا (104) (الكهف)).
لقد علمنا ذو القرنين أنك إن تكنْ مهندسا وممن يحسنون صنعا، فلا بد أن تكون إنسانا يحمل معنى الإنسانية فيما يهندس، متبعا الأسباب بعضها بعضا، وموحدا بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات لمن خلق الكون وجعل الإنسان خليفته في الأرض.
ألا يستحق ذو القرنين أن نسميه "المهندس الأول" الذي أتبع سببا فأحسن صنعا؟
اللهم اجعلنا ممن يتبعون سببا فيحسنون صنعا.. اللهم آمين.
* رئيس مجموعة أبحاث هندسة البرمجيات في جامعة بريستول، غرب إنجلترا.