من المؤكد أن
روسيا، دولة عميقة استخباريا، ولها تاريخ طويل في قراءة أدق التفاصيل، لدى الدول المعادية، فكيف مع حلفائها الاستراتيجيين، الذين تخترق كل قواهم، قبل أن تضع أسلحتها بين جيوشهم، وكذلك وضع أقدامهم على الأرض، فهي لها تجربة مريرة وفاشلة في الحروب المباشرة مع الدول، سيما أن الشعب السوري مشبع بكراهيتها.
لا شك أن روسيا تدرك بعد خمس سنوات من المراقبة الحثيثة لكل مجريات ما يجري في
سوريا أن الضوء الأحمر أطلق، وأن نظام الأسد بات في خطر حقيقي، وهذا يعني أنها ستخسر آخر حلفائها بالشرق الأوسط، وآخر أوراق ضغطها بعد الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي، وهذا مرتبط فقط بالقيادة العلوية الأسدية، فأي تغيرات ستطرح في سوريا لن يكون لروسيا أي ذراع بها.
هذا ما يفسر التدخل السوري، بعد تخابط التحليلات، التي استهدفت الموقف الروسي، بعد موسم صيفي حج به رموز قادة المحور (لأصدقاء الشعب السوري)، والتي درست كلها كخيارات كان بوتين يدرك أنها طعم مؤقت، ولا يمكن أن يركن على وعود خليجية أردنية، مهما أعطي من تطمينات، فهذه الدول معروفة أنها تحمل العمق الأمريكي في الشرق الأوسط، وكل ما يعرض عليها لا يعد أكثر من وعود مؤقتة للضغط على الدعم الروسي للأسد.
ما بعد التطمينات والمد والجزر، جاء الموقف الروسي حاسما واضحا: روسيا الغد لن تكون إذا انتهى الأسد، لذلك كسرت الدعم الخفي والخجل، ليس بالسلاح فقط، بل معروف أن جهاز الاستخبارات الروسية، يخدم بكل معلوماته الجيش السوري ويقدم له صورا دائمة من الأقمار الصناعية، كما حدث في هجوم المعارضة من الغوطة على دمشق قبل عامين، حيث كشف الروس الخطة كاملة وقدموها للجيش السوري.
ثمة اعتبارات عديدة لهذا التدخل الذي جاء متأخرا، بعد إنهاك الجيش السوري، الذي لم تنقصه العدة العسكرية للتقدم مقابل العزيمة العسكرية. وبرأيي أن روسيا تريد أولا تثبيت وجود لها على الساحل السوري، لتمنع فقدان هذا اللجوء المهم لها الذي يعد باب أسيا على أوروبا من التجارة البحرية إلى خطوط الغاز، وكذلك لتضمن وجود موال تلقائي في حال سقوط الأسد، وهذا سيجعلنا نسأل هل هذا فقط لتثبت الأسد، وتشكيل غطاء جوي، لقصف مناطق المعارضة، بحجة أن هذا يتم عبر طيران الجيش السوري، معتمدة على تقدم لقوات إيرانية، ومن حزب الله المنهك أيضا .. أم فقط صناعة قاعدة تثبيت للوجود العلوي الذي سيتمركز في نقطة واحدة.
عسكريا، هذا التدخل وضح المأزق الذي يعيش به الجيش السوري، الذي يترنح في إدلب ودرعا، وفشل بأي تقدم في حلب والقلمون وعلى مستوى الزبداني، لذلك خلع بوتين التقية الروسية والتعاطي في كسب الوقت، وتدخل بشكل مباشر واضح علني، ولا ندري ما هي حدوده والذي ستوضحه الأيام القادمة مستغلة ضعف الموقف الأمريكي سيما للرئيس اوباما الذي تأكد رسميا تعاطفه مع بقاء بشار الأسد، وقد كشفت كل ألاعيبه السياسية وحديثه، المتناقض مع أفعاله، وعدم وجود أي رؤية لأي مستقبل يخص سوريا.
وإذ أعلنت روسيا أنها جاءت لمحاربة داعش كي تستعطف الموقف الأوروبي، فأماكن وجود داعش محددة، وبشار الأسد يتجنبها، وعمليا لأن أمريكا التزمت شكليا بضرب مناطقها في عاصمتها السورية الرقة، ولكن قد يستغل بوتين لتوزيع حربه لداعش إلى التطرف والإرهاب ليشمل ذلك ضرب مناطق جيش الفتح والإسلام، والنصرة، وليحطم قوة المعارضة، حتى لو فتح المدن لبشار الأسد، فإنه سيستغل ذلك لإنهاكها، حتى لا يكون هناك دور كبير لها.
لا يوجد بالواقع السياسي أي تفاهم، للنظرة الأوروبية الأمريكية أو الروسية كما يظن البعض، فأمريكا تريد أن تكون هذه المنطقة محرقة بجميع الأطراف المشتركة بها، كالحفرة المخفية التي يقع بها الجميع، دون انتصار طرف على آخر، بينما تريد روسيا أن تحرق كل سوريا وليبقى الساحل بما يحطه من علويين.